طلال سلمان

ايها اللبناني: لست انسانا بعد

الانهيار يكمل مساره بنشاط متزايد. الأخطار لا تحصى. أسوأها اليأس والشلل ومعايشة الأفول. السياسات قاتلة. إننا ماضون الى الغياب.

ونسأل لماذا كل هذا؟ اننا نرى بعيوننا كيف يتنامى قتلنا.. غضبنا كلام مصاب بالعجز. الإعلام كله، مكتوباً أم مرئياً. مشغول بقصة: ابريق الزيت”. عاد المشهد يكمل مساره: خلافات مستدامة، حول ما بعد الانتخابات “المعجزة” التافهة. اكتمل نصاب الكذب والسعار والكلبنة. لا أحد أفضل من أحد. من يكلَف؟ تشرفنا!!! من يؤلف؟ قرفنا. هل من رئيس جديد؟ لا جديد. فقَاسة المجلس تبيض ديكاً لا يبيض. لبنان، برئيس او من دونه، مصاب بلوثة العظمة المنخورة. كل ما عندنا عار فينا ومنا. الأدوات في “الإعلام” يسرفون في كلامهم عن البغاء السياسي، بكل خمولية. كأن لبنان يملك رفاهية الخيارات. لبنانكم لم يعد موجوداً. مات ولم يدفن بعد، ولن. والناس، يا حرام، يظنون ان “الزجل الطائفي والمذهبي”، كفيل بربح ما، في تأليف وزارة الحضيض الاسفل، وانتخاب الغياب رئيساً.

ونسأل لماذا كل هذا؟ ألا ابواب خلفية للخروج من هذا المأتم الشعبي. اليأس لم يعد خياراً. البؤس ليس مفاجئاً. الافلاس يفلس السياسة. الاحزاب والكتل والـ… هراء بهراء. “الانتخابات” الاخيرة، قد تكون الاخيرة عن جد. هناك امكانيات تجديد وتمديد وتسهيل… لبنان باق حياً ولو مات. (لا تناقض البتة في هذه الجملة).

لم يعد السؤال مجدياً. أين السياسيون؟ الجواب: لا سياسيين عندنا. عندنا زبانية من زمان. السياسيون أقل من أصابع اليد. هكذا كان من زمان، ومن شب على شيء شاخ عليه. فلنحذف الكلام عمن يملأون  الساحة بالكلام المعاد والمستعاد، فلسفة لبنان، الميثاق، لبنان بجناحيه، سويسرا الشرق- الى الخ… كذب ونصوص قرأنا في اكاديميات “ماريكا”، وليس اميركا.

يبقى ان نسأل عن الاموات فقط. لماذا قصَر الشعب اللبناني في الدفاع عن لقمة عيشه؟ جنى عمره؟ طموحاته؟ ودائعه؟ عن نفسه؟ عن أولاده؟ عن دوائه؟ عن استشفائه؟ وعن ألف عن…؟

لماذا؟

اليأس عادة يدفع الى القتال او الانتحار، لا ليس اليأس خياراً. هناك أفدح منه. الموت حياتنا، اننا اموات يرزقون قهراً وخيبة وعجزاً.

لماذا كل هذا؟

علينا ان نكف عن لوم الشعب. وقد ارتكبت سابقاً لوماً عنيفاً. اعتذر منه. الشعوب اللبنانية ليست مذنبة. لقد خرجت في 17 تشرين. حاربتها الكورونا الطائفية قبل الكورونا الوبائية. أخرجت “المنظومة” اظافرها وأنيابها وحولت اوجاع الناس الى متاريس اقليمية وخليجية واميركية وايرانية وسعودية. حضرت كل صراعات وخلافات العالم الى الميدان، فيما كانت الحياة العادية تنسحب من تحت اقدام الجميع، باستثناء المطيعين طائفياً ودولياً واقليمياً. انتصرت “الثورة” (صفة مبالغ فيها جداً) وانتهت، ثم انتخبت في خنادق الطوائفية والمذهبية.

لا تُلام الشعوب على بؤسها. تُلام الاحزاب، النقابات، النخب الاخلاقية، الجامعات، الهيئات، الـ.. كل ما يمت الى “السلطة المسلوبة” بعلاقة.

تُلام الاحزاب. أين هي؟ انها مريضة وغير قابلة للشفاء. كل الاحزاب ولو اجتمعت لا تزن الا القليل. “الاحزاب” الطائفية تنامت بسعار مذهبي اقليمي دولي. “نحن مشغولون بالسيادة والتغيير”. ما هذا الشعار الذي يشبه العار. الناس تريد خبزاً ودواءً وعافية وتعليماً ورواتب وزراعة وصناعة ومشاريع مياه وكهرباء.. أخذها محتالو الحراك الى قضايا ليس باستطاعة اميركا ولا إيران ولا اوروبا كلها ولا حرب اوكرانيا، ولا حرب داحس والغبراء.. ان تفتتح الأبجدية اللبنانية النازفة بؤساً ويأساً. ماذا؟ عن جد ماذا؟ سيادة واستقلال أم نهب اموال. ام تدمير هياكل. أم تفخيخ قضاء، أم تفجير المرفأ او انفجاره… الى أين أخذتم الانتخابات؟ الى صناديق الانتحار أم صناديق الانتخاب؟ إننا اليوم نشهد فصول الانتحار، والمنتحرون أناس بحاجة الى قبضة اوكسيجين فقط.

خلاصة القول: اننا اموات بعيون مفتوحة. الاحزاب: ماضٍ مضى ولن يعود. الموت، برنامج عملها اليومي. ظروف المجتمع اللبناني، كانت مفتوحة أمام القوى الحزبية لتتولى قيادة الشارع والانضمام الى الناس وقضاياها. حضرت لقاءات كثيرة لأحزاب وتجمعات. عبث. عبث. كانت خلافاتهم حول ما يكتب، وليس حول عمل يتوجب. اختلفوا على جمل انشائية: مدنية، علمانية، قانون انتخابي طائفي او لا طائفي. سيادة واستقلال. تغيير النظام او تطبيقه.. حوار بيزنطي حول تجنيس الملائكة. لم يكن ذلك حواراً ابداً. كان جدلاً بيزنطياً حول طبيعة الملائكة: هل هي اناث ام ذكور.. ومحمد الفاتح على الابواب.

النخب اللبنانية، كانت النبض الشعبي اللبناني، الذي انفجر كالمعجزة الكبرى، في وجه “كلن يعني كلن”، النخب اللبنانية مصطفة في خنادق خلفية تكمن فيها طموحات مضادة، وذات منطلقات طائفية ودولية واقليمية.

لم يكتشف هؤلاء جميعاً، انهم ليسوا أهلاً لأي تغيير. المقابر السياسية الحية، أكثر ذكاء وحضوراً، من “شعوب” لبنانية، تجرجر خلفها جثثاً سياسية برتبة شعارات التغيير.

يبدو ان لبنان ينتمي الى فصيلة تكلست ولا شبيه لها. الثبات على عفونته ونتانته أفضل من مجهول لا تعرف وجهة صلاته، وجهات صِلاته. ولم يعد غريبا، ان الذي تعرض لسرقة امواله، ان يتسول ماله بمذلة وعذاب وقهر. عجباً كيف لا تصح مقولة حنة ارندت: “الذي يتعرض للعنف يحلم بالعنف… المقموع يحلم بأن يلعب دور الصياد، لا دور الطريدة.. والفقير يحلم بتملك ما لدى الغني”.  ربما يكون كارل ماركس على صواب: “إن الاحلام لا تصبح ابداً حقيقة، والثورات والانتفاضات كانت مجرد فورات غضب وجنون”.

هكذا، في خلاصة مستدامة: لقد تحولت الاحلام الى كوابيس وسقطنا جميعاً في وهادها وأوهامها وآلامها.

ماذا لو حاولنا الدفاع عن مجتمع متخلف؟ عن بنية متخلفة؟ عن تقديس التخلف والدفاع عنه؟ ماذا لو كانت الطائفية نظام التخلف الامثل؟ ان اللبناني بتمام اناقته ومنصات بهورته، هو كائن متخلف، و”التخلف هدر لقيمة الإنسان” (مصطفى حجازي). والانسان الذي يفقد انسانيته يفقد كرامته بكامل صورها. التخلف هو لا شيء. أي ليس انسانا. فالإنسان قدس الأرض والفكر. بالتخلف ينفطر الانسان ويصير غياباً او حاضراً بمضمون غائب. يصير وسيلة لا غاية. وقيمته بخسة. (حاولوا ان تروا اللبناني عندما يتحرك سياسياً وانتخابياً… يا حيف!)

إن التبخيس فعل الانسان لنفسه. يصير مطيعاً لعالم الضرورة والقهر السياسي. هو يدرك انه ضحية، ويظن انه كذلك بسبب قمعه، فيما هو سار في مسار ليكون هو فيه الضحية.

هل رأيتم ذلك في “الانتخابات الأخيرة”؟

وتسألون لماذا لا يثورون. الانسان، في لبنان وفي العالم العربي، رقم او شيء او آلة تدار بأزرار، تسمى الأفكار. هو كائن لا يعترف بإنسانيته وقيمتها وقدسيتها. ولأنه يعتبر شيئاً، “يصبح كل ما يتعلق به او ما يمت اليه مباحاً”. غبن، اعتداء، تسلط، استغلال. امتطاء.

أيها اللبناني، أنت لست انساناً.

انت تعفن سياسي مزمن. تستحق ما اصابك. لا تتهم احداً غيرك، غريباً او شقيقاً او عدواً.. أنت كذلك. حلة من الخارج واهتراء وتعفن، من الداخل. ومن لم يكن كذلك يصح عليه لقب “الطافر”، أي الهارب من لبنان وقذاراته وافكاره التافهة.

لدينا قضايا كبرى مرشحة للموت دائماً. هل تتذكرون كارثة الرابع من آب 2020. تُرى أين البيطار؟ أين القضاء؟ أين العدالة؟.

رجاء يا نصري. سد بوزك، نحن في لبنان.

 

Exit mobile version