طلال سلمان

اين عروبة سوريا لا توقف هذا منطق انعزالي

يصعب على محبي سوريا في لبنان والمقدرين لدورها والحريصين على صورتها الأصلية كأخ كبير، أن يلتزموا الصمت وهم يسمعون بعض الناطقين باسم حكومتها أو يقرأون تعليقات بعض الكتاب في صحافتها »الرسمية«، بكل ما فيها من خروج على الثوابت القومية التي تعوّدنا من دمشق الالتزام بها والتضحية من أجلها، والتي كانت تبرر تلك المنزلة الخاصة لسوريا في عيون العرب في مشرقهم ومغربهم.
إن هؤلاء الناطقين الحكوميين والكتاب الرسميين يلجأون الى أسوأ أنواع الدفاع في المواجهة مع ما صدر عن أطراف وقوى سياسية لبنانية. إنهم يعتمدون منطقاً مضاداً هو من الطبيعة اللبنانية الكيانية ذاتها. إنهم يتبنون منطقاً قطرياً كيانياً انعزالياً طالما كان غريباً عن دمشق »قلب العروبة النابض«، ومرفوضاً منها وفيها.
لكأنما أصابت هؤلاء الناطقين عدوى »اللبننة«، بل حاولوا على طريقة شعراء الزجل أن يزايدوا في الكيانية والانعزالية على المتعيشين من هذا المنطق القطري البائس الذي تعوّدنا منه أن يستقوي على العرب بالغرب، بل وحتى بإسرائيل، لأن الكيانية هي نقيض الوطنية فكيف بالعروبة؟!
ومع التفهم للوجع الذي أصاب السوريين عموماً نتيجة ما سمعوه وما لاقوه من اللبنانيين، حين تفجر حزنهم على شهدائهم المقتولين ظلماً، ممن كانوا تحت الحماية السورية، بحكم المسؤولية المباشرة قبل العاطفة، وأكبرهم وأخطرهم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فإن ردود الفعل في دمشق جاءت مثقلة بالغضب والاستهانة، بينما كان اللبنانيون هم من فقدوا قادة وأعزاء، في ظروف أقل ما يقال فيها إنها ملتبسة وحمالة أوجه… واتهامات.
كان الأمل، بل المنطق، يفرض أن يكون اعتراف الرئيس الدكتور بشار الأسد بأن الإدارة السورية قد ارتكبت أخطاء في لبنان، مدخلاً إلى مراجعة شاملة وصريحة لهذه التجربة التي أمل السوريون واللبنانيون أن تكون »النموذج« للارتقاء بالعلاقات بين الدول العربية من المجاملات أو المناكفات أو التواطؤات بين بعضهم ضد البعض الآخر بالنكاية أو لحساب الغير، إلى مستوى يليق بكرامة الشعبين ويوفر المناخ الصحي لتحقيق مصالحهما المشتركة.
كان الأمل أن نسمع، بعد ذلك، من قيادة الحزب، ثم من القيادات السياسية والفكرية، كما من الحكومة في دمشق، ما يفيد بأنهم قد شرعوا جميعاً في المراجعة الشاملة لهذه التجربة التي كان يفترض أن تكون »نموذجية«، فانتهت كارثية…
وكان الأمل أن يسمع السوريون، قبل اللبنانيين، تحديداً لهذه الأخطاء ومجالاتها، وتحديد المسؤولين عنها، ومحاسبتهم على ما ارتكبوه بحق سوريا ولبنان، وبالتالي على القصور أو التقصير أو التقصد في إفشال ما تمّ التوقيع عليه من اتفاقات، وإخلاء المساحة الفسيحة لعلاقات التكامل لمن لا يفقهون فيها أو ليسوا معنيين بإنجاحها، وتقديم المنطق الأمني والسعي إلى النفوذ والجاه والمنافع على المنطق السياسي وعلى المصلحة المشتركة للبلدين الشقيقين.
لقد ارتكبت الإدارة السورية للشأن اللبناني أخطاء فادحة، وطبعاً بالتواطؤ مع مسؤولين لبنانيين ابتدعتهم أو تبنتهم أو أنها اختارتهم على مسؤوليتها وبمعزل عن كفاءتهم أو صدقهم أو إخلاصهم، فضلاً عن مدى إيمانهم بانتمائهم العربي وإخلاصهم لفكرة التكامل والأخوة والتعاون والتنسيق بين »دولتي الشعب الواحد«.
ومن أسف، فإن ردود الفعل الغاضبة تقفز من فوق هذه الوقائع
المؤلمة وتتصدى فقط للرد على من ينتقد تلك الإدارة السورية، وقد يشتط فيصيب السوريين جميعاً، قيادة وشعباً وجيشاً… ولكن هذا الشطط يجب ألا يسقط أساس الموضوع، خصوصاً أن الكارثة قد أصابت سوريا والسوريين بقدر ما أصابت لبنان واللبنانيين.
إن بين ما نقرأه أو نسمعه صادراً عن »رسميين« سوريين يشكل نموذجاً فاقعاً لفقدان التوازن، وأحياناً لفقدان الذاكرة، والضياع والارتباك، وكل ذلك يؤدي إلى تجاهل أساس الموضوع والرد على ظواهره، فيبقى الخطأ بلا حساب، ويغرق الجميع في مهاترات لا تفعل إلا زيادة الوجع وتعميق الهوة بين الشعبين الشقيقين.
إن هذه الحملة (المتأخرة) والتي غالباً ما تستخدم منطقاً كيانياً مرذولاً، تسيء إلى كرامة الموقف السوري أكثر مما تسيء إلى اللبنانيين..
فالأخوة لا تستحيل عداوة لمجرد فشل الإدارة السياسية في تظهير الصورة المرجوة للعلاقات بين الأشقاء.. والكلام الجارح لا يغطي الأخطاء بل يجسمها ويضخمها بما يجعل من الصعب معالجتها، ناهيك بمحاسبة المسؤولين عن ارتكابها.
إن الأخوة لا تستقيم بالتمنين، أو »بتقريش« الخدمات التي قدمها كل أخ إلى أخيه…
وعلى الأخوة السوريين أن يستنقذوا ما أصاب العلاقات بين البلدين المتكاملين، بالجغرافيا والتاريخ والمصالح والعواطف، بالعودة إلى العقل وإلى المراجعة والاعتراف بالأخطاء التي تستولد أخطاء مقابلة، وبالتوكيد على أنهم بحكم كونهم الأخ الأكبر، وبحكم أنهم قد تحملوا المسؤولية لعقود هم المسؤولون ليس فقط عما كان، وعن إصلاحه، بل عن استنقاذ المستقبل من خطر الضياع في غياهب الكيانية ومصالح الذين استفادوا من »الهيمنة« على حساب الأخوة، والذين يريدون الآن الاستفادة من »الانفصال« تحت ذريعة الدفاع عن كرامة سوريا.
وكرامة سوريا في عروبتها لا في انعزاليتها.

Exit mobile version