طلال سلمان

اولبرايت جولة انسحاب

قد لا يكون التفجير في طبريا وحيفا، مساء امس، وبغض النظر عن نتائجه المادية وهوية ضحاياه، هو أفضل الردود واقواها على التنازل الفلسطيني الجديد، الذي تم وسط مهرجان احتفالي لم تستطع فخامته المرتجلة ان تخفي بؤس ما تم التوقيع عليه.. توكيداً لتوقيع سابق على النص الاصلي للاتفاق المؤكد لاتفاق سبق التوكيد عليه باتفاقات سابقة، وبتواقيع أعظم جلالاً.
فالتفجير المزدوج، وفي موقعين متباعدين على أرض فلسطين المحتلة، وبعد أقل من أربع وعشرين ساعة على احتفال التوقيع على »مذكرة تنفيذ الاستحقاقات العالقة من الاتفاقات السابقة«، اضافة الى تظاهرات اهالي الاسرى والمعتقلين من فتية الانتفاضة والمجاهدين من أجل التحرير، كل ذلك هو اعلان لخيبة الامل، باعلى صوت ممكن، ولليأس من مثل هذا النهج الذي لا يوصل لا الى »دولة« بأي معيار ولا الى »سلام« بأي مفهوم.
لا اوهام حول ان هذا »الاتفاق الدولي«، كما الذي قبله وقبله وقبله، يملك قوة دفع تحميه من السقوط الفوري، وتمنح »سلطة عرفات« متنفساً، كما قال هو نفسه، وتبرر لعرب الهرولة مواصلة الرهان على ايهود باراك، برغم انه أثبت وبالمحسوس انه أشد تطرفاً وأعظم تصلباً من سلفه موقع النسخة الاولى (التي جرى تعديلها) من »اتفاق واي« والذي ظل في الثلاجة منذ توقيعه، بحضور الرئيس الاميركي بيل كلينتون ومشاركته »الثقيلة«،
يستطيع باراك الان التباهي بانه استعاد بعض ما فرط فيه بنيامين نتنياهو، وانه حول الادارة الاميركية بالفعل من راع وقوة دفع ووسيط نزيه الى مجرد »شاهد« على »حسن الجوار والاحترام المتبادل« بين اسرائيل والفلسطينيين اساساً، كما بينها وبين مصر والاردن، حيث لا تحتاج العلاقة بين الشركاء الى وسطاء او رعاة »اجانب«!!
في ضوء هذا الواقع يمكن قراءة النتائج العملية للزيارة التي طال انتظارها، والتي ارجأ باراك موعدها الاصلي وحدد لها التاريخ الذي يناسبه تماماً، بحيث لا تأتي الوزيرة الخطيرة الا والمسرح معد للتوقيع بشروطه، وبالتوقيت المناسب وفي المكان الذي يختاره هو.. (ولا يهم ان يضطر رئيس اكبر دولة عربية الى الانتقال من مقره الصيفي الرسمي الى فندق في شرم الشيخ التي يحبها الاسرائيليون والاميركيون، وان يجبر ملك عربي على الانتظار ساعات ليشهد من دون ان يكون شريكاً في ما اشرك فيه استكمالا للطقوس الاحتفالية)!.
… ويصبح مشروعاً، أقله في دمشق وبيروت، التساؤل هل جاءت مادلين اولبرايت لتؤكد استمرار الدور الاميركي في رعاية العملية السلمية، ام لتمهد للانسحاب من الدور القديم والاكتفاء بدور الشاهد، تاركة لاصحاب العلاقة ان يتوصلوا مباشرة، ولو عبر ألغام الخلافات العميقة وآلام الصراع التاريخي، الى الاتفاق باعتبارهم هم الذين سيعيشون معاً في المستقبل، وفقاً لنظرية باراك الجديدة؟!
واذا كانت دمشق قد اعلنت بلسان وزير خارجيتها فاروق الشرع، وبحضور مادلين اولبرايت، ان الوزيرة الاميركية لم تحمل معها من اسرائيل ما كان متوقعاً او مأمولا، او يستحق عناء الرحلة، وبالتالي ما يمكن ان يفتح الباب للعودة الى طاولة المفاوضات، فان بيروت قد سجلت بلسان الرئيس سليم الحص ما اغفلت اولبرايت ذكره حول القرار 425 تحديداً، كما رسائل الضمانات والتعهدات الاميركية التي حملت لبنان في من حملت الى مؤتمر مدريد.
ذلك ان وزيرة خارجية كلينتون، المؤتمن على »الوديعة« التي انتهت اليها المفاوضات بين السوريين والاسرائيليين، ودائماً في اطار مدريد، والتي توقفت بعد اغتيال رابين، تحدثت وكأنها »خبير اجنبي« كلف حديثاً بملف ثقيل لا يعرف عنه ما يكفي وهو يتلمس طريقه الى معرفة الحقائق الاصلية ليمكنه من بعد ان يرسم خطة حركته.
لم تسمع دمشق ما كانت تأمل في سماعه، وبحق، لان واشنطن كانت وما زالت؟ طرفاً فيه، كمؤتمن على الوديعة التي تلخص ما اتفق عليه، وليس فقط كشاهد.
اما بيروت فقد استمعت الى حديث مطول عن »الارهاب« وعن ضرورة ان يضبط ضحايا الاحتلال أنفسهم فلا يردوا على اعتداءات المحتل الاسرائيلي، مع تلميحات غير مستحبة حول الامن والاستقرار، وحول ما سوف يحمله »السلام« الموعود من رخاء وازدهار في ظل حسن الجوار.. وتجاهل للمسائل الساخنة التي تقلق اللبنانيين، او الرد عليها باستخفاف كما فعلت باحالة موضوع اللاجئين الفلسطينيين الى لجان التفاوض متعددة الاطراف، التي قاطعها لبنان وسوريا منذ اليوم الاول، لانهم رأوا فيها وضعاً للعربة امام الحصان، ومناقشة النتائج قبل الاتفاق على طبيعة المفاوضات ومن ثم على طبيعة ما ستنتهي اليه، وهل يكون »تسوية« ام مدخلا الى حرب جديدة؟!
ولعل مما اضفى جواً من الطرافة على الزيارة تعمد اولبرايت وضع »بروش« هو عبارة عن »رأس اسد« في دمشق، مع لفت نظر الرئيس الاسد اليه (لمعرفتها انه لا يحب مثل هذه الزينة). ثم تعمدها ان تضيف ارزة الى الاسد عند وصولها الى بيروت.
اما في القراءة السياسية الاولية لجولة اولبرايت فيمكن القول انها انما جاءت »لمباركة« الشراكة الجديدة بين عرفات وباراك، ولمشاركتهما الحملة والتحذير من »الارهاب«، ولهذا ذكر عرفات »بقمة شرم الشيخ لمكافحة الارهاب« التي عقدت بعد التفجيرات الاستشهادية في القدس المحتلة وتل ابيب..
ان الاشادة »ببطولة مصر مبارك« في هذا السياق و»بشجاعتها« المتمثلة في استضافة الاحتفال ورعاية الاتفاق الجديد، ليست مجرد رسالة الى دمشق وبيروت، وانما هي تلويح بالانسحاب الاميركي من الرعاية المباشرة للعملية السلمية برمتها.
وقد يكون هذا التلويح »مناورة« كما قد يكون تعبيراً عن الوضع الحالي (سياسياً) للرئيس الاميركي بيل كلينتون ومدى قدرته على الضغط معنوياً على باراك، الذي دخل عليه »كملك« في البيت الابيض، والذي انتزع منه ما لم تحظ بمثله اسرائيل من قبل، وسيكون قاعدة التعامل بعد اليوم.
ونحن على ابواب مرحلة جمود، او تجميد، في انتظار ان يثبت »التعايش الاسرائيلي الفلسطيني«، وفي ضوئه تكون الحركة التالية اميركياً،
والجمود مصلحة اسرائيلية، بالاساس، ولكنها تبدو الان وكأنها اميركية ايضاً.
اما بالنسبة للعرب، وبالتحديد لبنان وسوريا، فان الجمود بل التجميد يحمل مخاطر جمة، وحول هذه المخاطر فليتركز التفكير.
طلال سلمان

Exit mobile version