طلال سلمان

اهداف الحرب الاميركية ابعد من بغداد والدوحة

لبِسَ الأميركيون ثياب الحرب على العراق وذهبوا إلى »السلام الميت« في الدوحة.
استعاد بيل كلينتون لغة الإذلال المتعمّد للعراق ومَن معه، بينما وزيرته مادلين أولبرايت تتصدّر رئاسة هذا المؤتمر الاقتصادي بعنوانه السياسي بمضمونه، الإسرائيلي باستهدافاته وإن استبقيت له واجهات عربية، والذي كان معظم حضوره »ضيوف شرف« من الآتين لنزح المزيد من ثروات المنطقة وأرضها الذهبية،
هل يستحق مؤتمر الدوحة كل هذا العناء؟
وهل قعقعة السلاح الأميركي، في مياه المنطقة وفضاءاتها، بالأساطيل وحاملات الطائرات والمقاتلات الصاروخية والشبحية، تستهدف تخويف العراق المحاصَر بالجوع وبقايا التحالف الدولي ومشاريع الحروب الأهلية في الداخل والطغيان الذي حرمه من أهله وصداقاته في الخارج وفكَّك جيشه إلاَّ مَن استبقاه لحمايته؟!
هل لمثل هذا العراق المثخن بجراح التجويع والحصار والطغيان تعد عدة الحرب الأميركية هذه؟!
أم أن أجواء الحرب هذه كانت ضرورية لإنقاذ المؤتمر الغارق في »دفنة« الدوحة التي يقوم فوقها فندق شيراتون والقاعة الفخمة الملحقة به والتي أُنشئت خصيصاً لهذه المناسبة المجيدة بكلفة قُدِّرت ب13 مليون دولار؟!
أم أن للحرب هدفاً فعلياً يتجاوز صدام حسين و»صرعاته« الإعلامية ومؤتمر الدوحة وأغراضه التي غدت صغيرة بعدما تلاقى على نفي الفائدة منه التطرّف الإسرائيلي ودعاة الشراكة الشرق أوسطية من بين العرب؟!
وهل يكون المؤتمر الإسلامي في طهران، والمقرَّر عقده بعد شهر فقط، هو المقصود بهذه الحرب التي اتخذت قاعدة لها في الدوحة، مقابل الساحل الإيراني للخليج، وزوَّرت عنوانها باسم بغداد التي سبق لها أن قاتلت ثماني سنوات إيران الثورة الإسلامية نيابة عن العرب الخائفين من إيران ومن الثورة ومن الإسلام معاً؟!
كائناً ما كان هدف الحرب الأميركية المعلنة إعلامياً فإن العالم يضج بأخبار الفضائح السياسية العربية التي تكاد تبرّرها بقدر ما تكاد تُخرج من ساحتها مَن يجب أن تكون له الكلمة الفصل فيها.
فالعرب بأكثريتهم خارج العراق والحرب الأميركية ضده، وخارج مؤتمر الدوحة والحرب الأميركية من أجله،
لا صدام حسين يقاتل معركتهم في بغداد، فهو صاحب الفضل في الوجود العسكري الأميركي في معظم المنطقة العربية، وهذا الوجود لن يتأثر بإخراج بضعة مفتشين يتلطون تحت علم الأمم المتحدة في بغداد، لتنفيذ »الإرادة الدولية« بشطب العراق من المعركة القومية جميعاً، وبالذات من معادلة التسوية المفروضة للصراع العربي الإسرائيلي،
وفي أي حال فغزو هؤلاء المفتشين للعراق لا يشكّل »خطراً« يستحق تشكيل تحالف دولي كالذي »حرَّر« الكويت من صدام ليحتل المنطقة برمتها.
… ولا »مترنيخ الدوحة« يقاتل لتحرير الأرض العربية من الاحتلال الإسرائيلي برشوة من الغاز والنفط يدفعها للأميركيين الذين يأخذونها أصلاً بغير منته..
وللحظة يبدو وكأن حاكم بغداد و»مترنيخ الدوحة« يلعبان اللعبة ذاتها،
فأن تجيء أولبرايت إلى الدوحة أعزّ عليها من أن يخرج منها معظم العرب، وهي مستعدة لأن تتكلّف على مؤتمر فاشل ما كان يمكن أن يصلِّب مقاومة شعب فلسطين للاجتياح الاستيطاني الذي تتعرض له مناطقه »المحرَّرة« بينما جيش الاحتلال ما زال يتحكّم بمساحاتها ومعابرها وقراها وأهلها جميعاً.
كذلك فإن صدام حسين يستهلك من بقايا الرصيد العربي، دولياً، ما كان العرب بأمسّ الحاجة إليه لمحاولة استعادة أرضهم المحتلة ولو بثمن ثقيل الوطأة على الروح والإرادة معاً.
وثمة مَن يقول الآن: كنا بصدام واحد صرنا بإثنين!
فلقد وفّرت الدوحة الأرض اللازمة لتحالف دولي جديد ضد العرب وحقهم في أرضهم، حين فتحت أبوابها للتطرّف الإسرائيلي بينما الغرب نفسه يقفل أمامه الأبواب.
… مع التمني بأن تكون قطر قد حققت لنفسها ما يعوّض الخسائر العربية التي يتسبّب بها هذا المؤتمر الذي كلّفها الكثير معنوياً ومادياً، وكلّفهم أكثر سياسياً واقتصادياً، إضافة إلى ما لا يعوّض من سمعتهم ومن صورتهم العامة التي تبدّت مفجعة والعالم كله يشهد على انقسامهم إلى حد التمزق..
* * *
لا أحد من العرب يناصر الأميركيين في تهديدهم العراق بحرب غير مبرّرة،
حتى الكويت سارعت إلى إعلان براءتها وغسلت يديها من »دم هذا الصديق« في تصريحات لنائب رئيس وزرائها أمس في القاهرة،
أما السعودية فقد اعتذرت، بكثير من الحنكة السياسية، لوزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت، عن جمع وزراء خارجية مجلس التعاون في الرياض، ليسمعوا منها التهديد (أو القرار) بشن حرب جديدة ضد العراق،
مع ذلك فقد نالت إسرائيل مكافأتها سلفاً، إذ وجَّه الرئيس الأميركي كلينتون رسالة إلى نتنياهو يتعهّد له فيها بضمان أمن إسرائيل في حال وقع عليها هجوم عراقي (من دون أن يحدد كيف سيهجم هذا العراق المحاصَر والمحطَّم سلاحه، والممزقة أرضه بين احتلالات أميركية متعددة، والمجوَّع شعبه حتى حافة الموت)…
* * *
يبقى أن أهم فقرة في البرنامج الحافل لمؤتمر الدوحة: أن أولبرايت قد رعت، على هامش المؤتمر، توقيع عقد »المدينة الصناعية المميزة« والتي تشترك فيها إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية والأردن، والمقرَّر إنشاؤها في منطقة اربد، غير بعيد عن قلعة أم قيس التاريخية التي طالما تولى منها الجيش الأردني تغطية الفدائيين الفلسطينيين وهم يعودون من أرضهم المحتلة بعد الإغارة على قوات الاحتلال فيها.
إن ما تطلبه إسرائيل هو »معابر عربية« لتمرير منتجاتها الصناعية والزراعية إلى أسواقهم الاستهلاكية الواسعة، لا سيما تلك التي يتمتع أهلها بقدرة شرائية عالية.
إنها تريدهم مستهلكين ولا تريدهم شركاء بأي حال،
وقد أعطت الولايات المتحدة غطاءها، فباتت المنتجات تتسرّب الآن بنفوذ أميركي وبواسطة »مهرِّب« أردني فقير يرضى بالفتات،
ولا ندري إذا كان »مترنيخ الدوحة« سينال عمولته جزاء إتمام الصفقة في عاصمته المخضعة الآن لطوارئ الأحكام العرفية.
* * *
إن بغداد تقول للعالم الآن إن معنويات قيادتها أهم من حياة شعب العراق، وإن غرضها التكتيكي والمحدود والذي وجد في الحرص الأميركي على مؤتمر الدوحة الفرصة الذهبية لتحقيقه، يتقدم على سلامة البلاد والأمة.
والدوحة تقول للعالم إن الاقتصاد عند العرب منفصل تمام الانفصال عن قضاياهم الوطنية والقومية، بل إنه قابل لأن يوظف ضد مصالحهم القومية (العليا والسفلى) وحقوقهم الطبيعية في أرضهم ومواردها الغنية.
إنها تقود سياسة تدعي أنها تجعل الاقتصاد خارجها، بينما أن هذه السياسة ما كانت لتفهم أو تسمع أو تعتمد لولا غنى قطر اقتصادياً، ولولا الطمع بالموارد الاقتصادية العربية (إسرائيلياً وأميركياً بل ودولياً).
كيف يكون اقتصاد خارج السياسة؟
كيف تكون سياسة حيث لا اقتصاد؟!
كذلك يكون الفصل بين السلام والأرض.
وطبول الحرب ستستمر لأن الهدف الأميركي لها يتجاوز بغداد والدوحة إلى طهران ومؤتمرها الذي يتوقع الكثيرون أن يكون نقطة تحوّل مهم في سياسات المنطقة عموماً، وبالذات على صعيد العلاقات العربية الإيرانية بدءاً بالجزيرة والخليج مروراً بلبنان المقاوم وسوريا الصامدة وصولاً إلى مصر وما بعدها في شمالي أفريقيا العربي، ولا سيما الجزائر،
إنها حرب أميركية وقائية ضد المصالحة التاريخية بين إيران والعرب، وهي مصالحة قد تمهّد وقد تفتح آفاقاً جديدة للأمل في هذه المنطقة التي يحكمها الآن اليأس والإحباط والشعور المطلق بالعجز.

Exit mobile version