طلال سلمان

اننا نستحق عقوبة التطبيع.. وداعاً يا عرب الفتنة

مئة عام مثقلة بالهزائم والفواجع. كان الحلم عربياً من المحيط إلى الخليج. مات الحلم. لا لم يمت. نحن قتلناه وسفكناه وهلنا فوقه الخراب. كان العرب قد التأموا في دمشق. أعلنوا عن رغبتهم بالوحدة والحرية والاستقلال. لم تكن إسرائيل عهد ذاك إلا وعداً. وعود العرب تناثرت وسقطت دامية. وعد بلفور، بعد مئة عام، ألغى فلسطين، مزق العروبة، اجتاح دولاً وممالك وإمارات. بات التطبيع واقعاً مستقوياً بالضعف والهزال القومي والترهل الوطني.

هذا الوارد أعلاه صحيح، إنما لماذا خسرنا كل هذه المواقع، بحيث بتنا لاجئين في مخيمات أو في طوائف، أو في مذاهب، وبتنا بلا أوطان صغيرة، ومن ثم بلا أمة كبيرة لها موقعها تحت الشمس. العصر الراهن لم يعد عربياً البتة، في أي فرع من فروعه. العصر الراهن عصر إسرائيلي التحقت به كيانات والبقية حاضرة للإلتحاق بسرعة، وبلا نقاش. إنها مخلفات عرب مستعدة للتوقيع على بياض مكحل بحبر إسرائيل الذي غُمِّس بدمائنا على مدى قرن تام من الزمن.

بعد وعد بلفور انصرفت المنظمات الصهيونية إلى بناء دولة قوية، بنظام ديموقراطي وبعقيدة واضحة: التوسع على حساب العرب، الإستقواء بالغرب الذي استولدها. ونجحت في أن تكون ديموقراطية، بسيادة الحرية “الشعبية”، وجعلت من القوة العسكرية نموذجاً، وأخضعت الجيش للسلطة السياسية المنبثقة من أحزاب وتكتلات متنافسة بين يمين ويسار ووسط، وبين حداثيين وتقليديين، بين علمانيين وبين كهنة العقيدة التوراتية. نجحت “إسرائيل” في تأمين قوة ذاتية متينة ودولة “مواطنين” وأحزاب وقرنت ذلك بتأمين غطاء دولي، تناوبت على تنفيذه ثلاث دول عظمى: بريطانيا وفرنسا وأخيرا العملاق الأميركي. وقد توج هذا البناء الذي أطلقنا عليه نحن لقب الهجين، توج “إسرائيل” بانتصارات متتالية، بحيث أنها لم تخسر حرباً واحدة، بل توسعت على حساب فلسطين، كل فلسطين، والأردن، وسوريا، وأطراف لبنانية منسية، إضافة إلى مصر.

عرفت “إسرائيل” أزمات سياسية حادة بين أحزابها وتياراتها، ولكنها لم تلجأ إلى ممارسة الحسم بالعنف. إختارت الإحتكام إلى “شعبها”، ونجحت في تكوين سلطة خاضعة للمحاسبة في “الكنيست” وفي الشارع عبر الإنتخابات.

الغرب غض النظر على إجتياحات “إسرائيل”، تعامل معها كدولة. الغرب لم يفعل ذلك مع العرب. تعامل مع أنظمة. والأنظمة تتبدل، فيما الدول ركائز أولى وأخيرة في موازين المصالح والتعامل والصراع.

قسَّمت سايكس بيكو المنطقة. خانت حلفها مع الحسين والقوى القومية العربية. منعت الولايات التي تحوَّلت إلى كيانات من تكوين دولة عربية واحدة، أو دول عربية ككيانات مستقلة. استعملت القوة العسكرية مراراً. قاتلت الثوار المتمردين على الإستعمار، القوة القومية آنذاك، ومعها قوة مرتكزة على مسلمات إيمانية سياسية، حاولت إقامة وحدة. ممنوع. سوريا الواحدة ممنوعة… تم تمليك الكيانات الجغرافية لعائلات وطوائف: لبنان للموارنة ثم للموارنة والسنة. سوريا قسمت إلى دويلات. إنتفض الشعب وقاد ثورات. لم تسترجع سوريا كل ما كان أرضاً واحدة مع أراضيها. طارت الإسكندرون. لبنان استقل عنها، مع ما أضيف إليه من أراض كانت، فيما يقال، سورية. منح الأردن للعائلة الهاشمية تحت رعاية ونفوذ وإمرة بريطانية. ألحق العراق، بعد انتزاع مناطق منه، بالعائلة الهاشمية. نظام ملكي هنا وهناك وهنالك. مصر خديوية. الهاشميون في الحجاز استبدلوا بآل سعود. وهب هؤلاء أغنى رقعة نفط في العالم. استقلت عن جيرانها من العرب، وسالمت حاميها الأميركي تسليماً عاماً. ما تبق صار ممالك وإمارات لعائلات متناسلة. الكويت لآل الصباح. لم تعد عراقية. الإمارات لآل نهيان في ما بعد. عُمان كذلك. اليمن لورثة التخلف من الزمن البريطاني. احتلت ليبيا. استعمر الجزائر، إلى آخره.

رد الفعل على هذا العدوان التقسيمي، كان من قبل فريقين: الفريق الأول قومي عربي، والثاني، أصولي إسلامي تمثل بـ”الأخوان المسلمين”. الدول التي أنشأها الاستعمار، واجهت التيار القومي العلماني الديموقراطي بالعنف والإعتقال والنفي، كما واجه “الأخوان المسلمون” رد فعل عنيف. وتغيّرت المفاهيم بعد الحرب العالمية الثانية. منحت دول عربية كثيرة استقلالات مقيدة. ثار ضدها عسكر قومي. نختصر: سوريا أولاً، مصر ثانياً، العراق ثالثاً وكرت السبحة حتى بلغ عدد الدولة المحكومة بقوى قومية سبع دول: مصر وسوريا والعراق والسودان وليبيا والجزائر.

قوى قومية واحدة، إلتقت على التقاتل والتنابذ والتآمر. السلطة بيد جيوش. الديموقراطية عدو هذه الأنظمة. طوردت وأسرت وأبعدت. تملك الجيش السلطة والبرلمان والإعلام. الحرية ممنوعة. عدو لدود. القضاء في قبضة الأمن. الأمن في خدمة السلطة. المسألة الإجتماعية مؤجلة، لأن “الدولة في حالة حرب مع إسرائيل”. إستباحت الأنظمة الدكتاتورية بلادها. ذهبت إلى قتال إسرائيل في العام 1967 بجيش مهزوم أصلاً. دولة واحدة، هي إسرائيل الصغرى حجماً والعظمى قوة، ركَّعت ثلاث دول وانتزعت منها أراض تفوق مساحة “إسرائيل”. سيناء في مصر، الجولان في سوريا، الضفة الغربية برمتها التي كانت تحت “رعاية” الأردن.

خسرنا لأننا كنا أنظمة بلا شعوب. الشعوب مدانة دائماً، وهي مرتكبة أو مستعدة للإرتكاب. لذلك عوملت بوحشية بوليسية. لم تعرف هذه الكيانات “القومية” الحرية والديموقراطية والمساءلة. لا تعرف إلا تشديد قبضتها على الرقاب والأنفاس، بواسطة العسكر.  

الديكتاتورية لا تصنع دولة. اإها تحتل الدولة لصالح العسكر. لصالح من يقول: “الأمر لي”.

وكما فشلت القوى القومية، المدعية الليبرالية والعلمانية، فشلت القوى الإسلامية. وظهر فشلها لأنها لجأت إلى العنف الديني والإغتيالات وتنفير الغلابى من المواطنين العلمانيين والديموقراطيين من كل تعاون أو تماس معهم. “الأخوان” مشكلتهم أنهم يعيشون في العصور الوسطى.

وكما فشلت الأنظمة، وكما فشل الأخوان، انتهت المقاومة، البلا أرض تنطلق منها، من تأمين شروط نجاح المقاومة والثورة، حتى اضطرت إلى التوقيع على اتفاق “أوسلو” الذي به خسرت البندقية ولم تكسب الأرض أبداً.

نتيجة لكل ذلك، كان التطبيع بهذه السهولة. لقد أنفق العرب مئه عام من الزمن، وهم يكدسون الخسائر ويراهنون على المستحيل. هؤلاء المهزومون المعلنون يطبعون.. التطبيع صار انتصاراً سياسياً. البقية تنتظر أياماً أو أسابيع لتلتحق بالتطبيع.

وداعاً يا عرب الفشل. الآتي أفدح.

Exit mobile version