يبدو أن ضعف العرب، عموماً، والعراق خصوصاً، قد أغرى بهم بعض اخوانهم وأصدقائهم وشركاء المصير، كأكراد العراق..
فها هو مسعود البرازاني يقرر، منفرداً، استقلال “الاقليم الكردي” في شمالي العراق كدولة مستقلة.. ويضيف كركوك إلى اقليمه منذراً المعترضين، مؤكداً انه سيحارب من اجل موقع كركوك في الدولة الكردية العتيدة.
ولقد عرفت مسعود البرازاني قليلاً، وعبر لقاءات قصيرة في دمشق، لم تتسع لحوار شامل وان اوضحت انه “ابن ابيه”.
وكنت عرفت قبله والده المللا مصطفى البرازاني، الزعيم الكردي الذي قاتل طويلاً، وفاوض حكم صدام حسين، حتى توصل معه إلى تسوية تمثلت بصيغة فيدرالية يكون فيها للإقليم الكردي نوع من الحكم الذاتي داخل الدولة المركزية بعاصمتها بغداد.
كان الاب صاحب تجربة سياسية عريضة، عرف خلالها القتال ضد حكومة بغداد، والمنفى في الاتحاد السوفياتي لفترة طويلة، ثم العودة إلى العراق بعد وساطة سوفياتية ارست صيغة الفيدرالية بالتفاهم مع بغداد.
وتبدى بعد الاجتياح الاميركي للعراق في آذار 2003 واسقاط صدام حسين ثم تسليمه للغوغاء الشيعية التي اعدمته بطريقة مستفزة، تبدى عبرها “بطلاً قومياً”، أن ازمة الاكراد هي جزء من الازمة الوطنية التي كان يعيشها العراق في ظل دكتاتورية صدام، وان حلها لا بد أن يكون ركنا من اركان الصيغة الجديدة لحكم العراق الجديد، بعد انهاء الاحتلال الاميركي..
وبالفعل تمكن “قادة العراق الجديد” من ابتداع هذه الصيغة:
فتمت تسمية كردي لرئاسة الدولة (جلال الطالباني ومن بعده معصوم)، وأقيمت حكومة اتحادية كان فيها للأكراد حصة وازنة ابرز وجوهها هوشيار زيباري كوزير للخارجية، فضلاً عن مواقع قيادية في الجيش والامن وسائر الادارات..
لكن عراق ما بعد صدام وفي ظل الاحتلال كان مثخناً بالجراح، وقد استثمر الاميركيون والاتراك والإيرانيون في الطائفية والمذهبية، وحرضوا العراقيين ضد بعضهم البعض بينما الدولة (المعاد بناؤها) ضعيفة البنيان، تنهشها الطائفية والمذهبية والعنصرية، فضلاً عن التدخلات الخارجية ومطامع الدول، بعيدها والقريب، في هذا البلد الغني بموارده الطبيعية (نهران، دجلة والفرات) فضلاً عن النفط في “ارض السواد”.
ضربت الطائفية الكيان السياسي، مستولدة الفساد الذي استشرى في الدولة الخارجة منهكة من الحكم الطويل والحافل بالحروب (ضد ايران، لمدة سبع سنوات، وبعدها غزوة الكويت التي جمعت فيها اميركا دول التحالف الدولي لمحاربة صدام حتى اسقاطه).. ثم الفوضى العارمة التي اجتاحت العراق (المحرر) وحروب الطوائف، ومحاولة (اعيان الشيعة) العائدين بمعظمهم من الخارج الهيمنة على الحكم في ظل رفض السنة التخلي عن “انجازات صدام حسين”.
في هذه الاثناء كان مسعود البرازاني يأخذ حصته الموازنة من السلطة في بغداد، ويقيم في الوقت نفسه اركان “دولته” في الشمال الكردي، مقرراً ضم كركوك إلى دولته (ولو بالقوة) مستفيداً من انفراده بالسلطة بعد أن غيب المرض “شريكه” الطالباني عن موقع القرار.
وكان طبيعياً أن تعترض بغداد على هذه القرارات الانفرادية، لا سيما ما يتصل بكركوك، فضلاً عن اعلان استقلال البرازاني بدولته في الشمال.
لكن البرازاني ضرب عرض الحائط بالاعتراضات جميعاً، وأصر على موقفه، بعدما سحب معظم وزرائه وكادراته من الحكومة المركزية في بغداد، وبدأ باستخدام “لغة حربية” لا تأخذ في الاعتبار اعتراضات الداخل العراقي والخارج الدولي (تركيا اساساً، وايران، وسوريا ضمناً) حيث نسبة من شعوب هذه الدول هي من الاكراد، وتشكل ثقلاً بشرياً وجزءاً لا يتجزأ من دولها.
موعد الاستفتاء يقترب في جو من التوتر المرشح للتصاعد، خصوصاً في ظل موقف ملتبس للإدارة الاميركية التي ما أن يغادر مسؤول كبير فيها اربيل حتى يجيء مسؤول آخر، قد يكون أكبر.
أما حكومة العبادي فقد أكدت رفضها لهذا المشروع الانفصالي، وحذرت البرازاني من مغبة قراره الانفرادي المتعجل… معلنة في رد فعل فوري، أن المسألة أخطر من أن يحلها قرار متعجل وغير مسؤول من شأنه أن يضرب وحدة العراق وينغص عليه فرحته بالإنجازات العسكرية الباهرة التي حققها جيشه مؤخراً بتحرير الموصل من عصابات “داعش” وبعدها مدينة تلعفر وتقدمه نحو الحدود السورية لتطهيرها من آثار هذا التنظيم المتوحش الذي أهان الشعار الاسلامي فحاول أن يغطي به جرائمه.
والجميع يتمنى أن يعيد البرازاني حساباته فلا يُعرض العراق، بعربه وكرده، إلى مأساة وطنية قد تذهب بما تبقى من وحدته وسيادته وكرامة شعبه الذي فرض عليه أن يعيش دهراً من الاحزان يكاد أن يكون بلا نهاية.
ينشر بالتزامن مع السفير العربي