طلال سلمان

انسحاب يجمعهم ويفرقنا

من المفارقات اللافتة، بل المقلقة، أن يبدو الانسحاب الإسرائيلي من الأرض اللبنانية المحتلة سببا للإجماع عندهم وسببا للاختلاف عندنا!
للمثال فحسب، يمكن الاستشهاد بالنتائج التي توصل إليها آخر استطلاع للرأي (عندهم) وهي تشير إلى ان 68$ من الإسرائيليين يؤيدون الانسحاب من طرف واحد (وكانت في الاستطلاع السابق 61$).
… هذا مع تقدير الأكثرية الساحقة من المستطلع رأيهم (71$)، أن العنف سيستمر، في حال الانسحاب بغير اتفاق.
أي ان »الإسرائيلي« مستعد لأن يبتلع الهزيمة السياسية، مقابل أن يضمن السلامة الجسدية لجنوده.
كذلك، فإن هذا »الإسرائيلي« قد وعى أخيرا، أن احتلال بعض الأرض اللبنانية ليس أكثر من الجزء الظاهر من جبل الثلج، وأن عمق المسألة يتصل بأساس الصراع العربي الإسرائيلي وبالوجوه السياسية المتفجرة لبعض نتائجه المأساوية وأبرزها اقتلاع مئات الآلاف من الفلسطينيين من بيوتهم في أرضهم ورميهم في الشتات، يستوي في ذلك أن يكون عربيا وقريبا أو بعيدا في أربع رياح الأرض.
وبعض هذه النتائج تتبدى جلية في لبنان، وتكاد تتحول إلى قنبلة موقوتة!.
لماذا يختلف اللبنانيون من حول انسحاب للاحتلال الإسرائيلي، وهو لما يقع، ثم ان حدوده لما تتضح، وإن كانت أهداف إعلانه والتلويح به واستخدامه كسلاح سياسي تكاد تكون مكشوفة كمناورة متقنة السبك وذكية في توقيتها، وقابلة للترويج دوليا؟!
إذا جازت هذه المناورة على الأميركي أو الأوروبي أو الآسيوي البعيد فهذا قد يكون مفهوما، لأنه سيهتم بالعنوان ولا يعنيه أن يدقق في المضمون… ثم انه لم يكن ضحية الاحتلال، ولم يتحمل تكاليفه؛ فلا هو شيّع الضحايا من أبنائه واخوته، ولا احترقت منازله أو أشجاره أو مواسمه أمام عينيه، ولا أصابه دوي الصواريخ المتفجرة أو قذائف الطائرات الحربية الأسرع من الصوت والحوامات القلاع، بالصمم، وحرمه النوم والأحلام وهناءة العيش وان جعله يتشبث أكثر بأرضه ويدفعه إلى أن ينغرس فيها ويغوص أعمق فأعمق كأنما ليثبت فيها ويثبت حقه فيها حياً وشهيداً.
أما غير المفهوم فهو أن يتعامل أي مواطن لبناني مع هذه المناورة وكأنها حقيقة نهائية، وأن يتبنى منطقها ويندفع لمناقشة نتائجها ومفاعيلها وما يترتب عليها وكأن إسرائيل تكرّمت عليه بالحرية، وأنعمت عليه بالسيادة، وحققت له تطلعه الى العنفوان، فأجْلت قواتها العسكرية (وربما مع الاعتذار عما تقدم من جرائمها وما تأخر)…
أما أن تبلغ بنا السذاجة، أو يأخذنا الوتر أو الغرض، إلى تبرئة الاحتلال والشهادة له بالشهامة، فليس معنى ذلك إلا إدانة الذات، وربما الاعتذار وطلب الصفح والغفران عن كل إساءة ألحقناها بهؤلاء الذين كانوا يقومون على حمايتنا من »الارهاب« و»الارهابيين«، ومن الدخلاء والطامعين، فلما أنجزوا مهمتهم انصرفوا بسلام، وصار من واجبنا أن نودعهم بباقات الزهر ونثر الأرز على دباباتهم ومدافعهم وصواريخهم وقنابلهم العنقودية المحبة للأطفال!
ومع الاعتراف بأن اللبنانيين ما زالوا يعانون من وطأة اختلافات سياسية، وما زالت في نفوسهم مترسبات من الضغينة والأحقاد التي تركتها حروبهم المتعددة الأشكال والهويات (الطائفية، المذهبية، وداخل البيت الواحد)، فإن قضية تحرير التراب الوطني من احتلال غير ملتبس وغير مموّه وغير مقبول بأي معيار، وغير مبرر بأية ذريعة تتصل بشؤوننا الداخلية، يجب أن تكون مطلبا بديهيا إجماعيا لا نقاش حوله ولا اختلاف.
ولا يجوز أن يبدو اللبنانيون أقل شوقا إلى أرضهم من شوق الإسرائيليين إلى استعادة جنودهم منها، بأي ثمن!
ولا يجوز أن يضيِّع اللبنانيون النصر السياسي الباهر الذي سيتحقق لهم بالانسحاب، وقد صنعوه بدماء شبابهم، و»يجيّروه« رخيصا، بل مجانا، لهذا المحتل الذي تحمل بيوتُنا جميعا، وطرقاتنا والجسور والمنشآت الحيوية، آثاره الدموية القاتلة للنور.
في الفترة الأخيرة أخذت ترتفع في إسرائيل أصوات تعتبر الانسحاب من لبنان انتصارا للمجتمع المدني فيها.. فقد كتب بعض الخبراء فيها ما حرفيته: »وإذا انسحبنا من لبنان حقاً في الفترة القريبة المقبلة، من دون اتفاق، فستُعتبر الخطوة تاريخية، وذلك لأنها المرة الأولى التي تتم فيها خطوة عسكرية سياسية بقرار اجتماعي مدني وليس بقرار سياسي. لقد أثّرت حركة الأمهات الأربع على النتائج النهائية أكثر من الهيئة العامة للجيش الإسرائيلي ووزارة الدفاع..«.
فهل من المعقول أن يكون الانسحاب سببا للتوحد في إسرائيل، وسببا للشقاق والاختلاف وربما للتمهيد لفتنة جديدة، في لبنان؟!
هل وصل بنا التردي الى اعتبار الاحتلال ضمانا للوحدة الوطنية، وزواله تهديداً لها؟!
ومتى نرجع إلى العقل والمصلحة، ومن ثم الوطنية، في رسم خطتنا لمواجهة الاجتياح السياسي الإسرائيلي، وهو أخطر من الاحتلال العسكري وأفظع إيلاماً لأنه احتلال للنفس لا حاجة معه إلى عسكر لحمايته وإدامته!

Exit mobile version