طلال سلمان

انتفاضة و»الصورة« موعد مرجا

أحيت اسرائيل عيدها الكبير، »الغفران«، بإهراق دماء المزيد من الفتية الفلسطينيين الذين لم يعد سقوط الشهداء والجرحى منهم، مهما ارتفعت أعدادهم، حدثاً، بل بات خبرا عاديا يأتي من باب الذكر وفي ذيل نشرات الأخبار العربية، فضائية وأرضية، المكرسة الآن لحفلة المصارعة الحرة المفتوحة بين جورج و. بوش وأسامة بن لادن، انطلاقا من مغاور الجبال الشاهقة في أفغانستان وبامتداد الأرض والفضاء والسموات السبع.
هي بداية السنة الثانية لانتفاضة الأقصى: العيد يستحق كوكبة جديدة من الشهداء.
أما العيد الاسرائيلي، فيستحق أن يصرف كولن باول ساعات طوالا من وقته الحربي الثمين جدا، لكي يلح ويلح ويلح فينجح أخيرا في إقناع بطل كل الحروب أرييل شارون بضرورة إعطاء الإذن لوزيره المنافق شيمون بيريز بلقاء ياسر عرفات، في محاولة جدية »للفصل« بين ملف الدم الفلسطيني وبين المشاركة العربية والإسلامية المطلوبة، بإصرار، في »التحالف الدولي لمكافحة الارهاب« بقيادته الأميركية المفردة.
لا بد من صورة للقاء (على مستوى القمة!!) بين الفلسطينيين والاسرائيليين لإيهام العرب والمسلمين بأن الارهاب الاسرائيلي، الذي لا يستطيعون تجاهله وإن هربوا من واجب مواجهته، قد توقف، ولو مؤقتا، أو هو لم يعد في مستوى »الحرب«، لكي يتفرغوا بكليتهم مرتاحي الضمير لتأييد الحرب الكونية التي إن هم لم يبلوا نداءها الأميركي تبدت كما وصفها جورج بوش في زلة لسان (تكشف المخبوء أو المضمر): حربا صليبية!
»الصورة« ضرورية جدا، و»المصافحة« بين من كانا »شريكين« لا بد أن تصل الى كل العرب والمسلمين،… فليضعوا إذن السجادة فوق بحر الدماء الفلسطينية ليظهروا الآن أيضا »شريكين« لا يفصل بينهما »إرهاب الدولة« الاسرائيلية ولا الغموض المطلق حول مصير الفلسطينيين وحقوقهم في أرضهم، ولو بحدها الأدنى.
لا يحتاج الأمر الى تحليل عميق، ولا إلى معلومات قاطعة: فلا أرييل شارون قد تبدل، ولا شيمون بيريز، ولا سياسة الحكومة الاسرائيلية، ولا »مزاج« الشارع الاسرائيلي الذي بلغ ذروة التطرف والدموية.
ثم إن الإلحاح الأميركي على »الصورة« لم يلغ أيا من أسباب الانتفاضة، ولا هو أبعد دبابة اسرائيلية واحدة عن المدن أو القرى أو المخيمات الفلسطينية، ولا هو أوقف رصاص القتل والاغتيال ونسف البيوت والمنشآت.
فالحرب الاسرائيلية متروك قرارها لأرييل شارون.
أما صورة »الشريكين« العائدين الى التلاقي، الذي لن يقود بالضرورة الى التفاوض فالاتفاق، فلا بد منها لبيعها من العرب والمسلمين، فيقتنع المقتنعون سلفا بالمشاركة في التحالف الدولي، ويشل الحرج الآخرين عن الاعتراض والرفض والإصرار على محاسبة إسرائيل أيضا على إرهابها، كون الفلسطينيين بين ضحايا الإرهاب لا بين »أبطاله« الكونيين.
على هذا لم يكن أمام عرفات فرصة للاختيار: هل يلبي دعوة الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد، المرجأة مرارا وتكرارا والمعلن برنامجها الرسمي أخيرا، أم يتملص منها ليطير الى الموعد الأميركي الموعود الذي كان محددا له مساء يوم الثلاثاء ذاته، ثم نجح عرفات في إرجائه حتى صباح الأربعاء، حفظا لماء الوجه.
دمشق رحبة الصدر، ورئيسها الشاب يمكن أن يقدر فيعذر… أما كولن باول؟!
ثم إنه ما كل يوم تتاح لعرفات الفرصة لأن يدخل في »تحالف دولي«، فضلا عن أن دخوله يغلق الباب أمام الاسرائيلي (كأنما المفتاح مع المقتول الفلسطيني).
***
دمشق رحبة فعلا، وكانت سترحب بعودة ياسر عرفات إليها لوصل ما انقطع من صلات على المستوى الرسمي، ولإزالة كثير من الالتباسات التي تراكمت عبر سنوات »الجفوة« فباعدت بين أهل القضية الواحدة.
والرئيس الشاب بشار الأسد الذي تتعمق تجربته عبر ممارسة المسؤولية، يتمسك بالثوابت الوطنية والقومية (وقد أخذها عن والده الراحل بوصفها التعبير المباشر عن إرادة شعبه فالتزم بها حتى يومه الأخير)، مع تقديره لظروف أقرانه من الحكام العرب الآخرين الذين لهم اجتهاداتهم ورؤاهم الخاصة النابعة من قراءتهم لأحوال بلادهم والعالم، والتاريخ هو الحكم.
ومع أن دمشق لم تعرف رسميا وبالدقة الأسباب التي دفعت بعرفات الى تأجيل الزيارة، فإن موقفها »الفلسطيني« لن يتأثر بهذا العامل الطارئ… ولها من تجربتها مع لبنان المنتصر بالمقاومة، بفضل تماسك شعبه وقيادته، ما يعزز يقينها بأن شعب فلسطين، الغني التجربة النضالية والعظيم ببذله وصموده، قادر على حماية انتفاضته وأهدافها النبيلة التي استحقت تضحياته غير المحدودة.
ولعل موقف دمشق المعبر عن الصمود ومواجهة الضغوط بالعقل والحساب البارد للمصالح، سمح ويسمح لبعض من التقى قيادتها مؤخرا بأن يسقط على كلامها، وهو ينقله عنها، بعض عواطفه، أو شيئا من موقفه من هذا النظام العربي أو ذاك، فيطلق الاتهامات بالانبطاح، ويشطح الى المبالغة في التوصيف أو في الاستنتاج بما يخرج الكلام عن معناه الدقيق والمحدد.
وستبقى دمشق هي دمشق، قبل مشروع »التحالف الدولي« وبعده، كما أكدت وتؤكد قيادتها الابن بعد الأب مصرة على التمييز القاطع بين المقاومة والارهاب، فالنضال لتحرير المحتل من الأرض حق مشروع لكل الشعوب المقهورة بالاحتلال، وفلسطين نموذج صارخ، أما »الإرهاب« فخطر حقيقي يمكن توظيفه دوليا ضد الشعوب المقهورة، كما نشهد هذه الأيام.

Exit mobile version