طلال سلمان

انتفاضة شمعة اولى عجز عربي

على امتداد سنة دموية طويلة أمضاها شعب فلسطين في مواجهات مفتوحة مع قوات الاحتلال الاسرائيلي، شملت المدن والقرى والمخيمات جميعاً، لم تستطع »الحركة الشعبية العربية« بتنظيماتها المختلفة والمتزايدة يومياً، كسر أطواق العزلة التي فُِرضت على انتفاضة الأقصى، فظلت خارج دائرة الفعل، وعجزت عن إثبات صدقية الشعار حول وحدة المعركة ضد العدو القومي الواحد.
في الايام الاولى واستباقاً لتحول »الغضبة« الشعبية التي كادت تحتل الشارع، أخذت الأنظمة العربية المبادرة فتلاقت في قمة طارئة في القاهرة لسحب الموضوع الى غرف التداول والتشاور والاتصال بالتنبيه ثم بالتحذير مع »عواصم القرار«، وواشنطن بالذات، للمساعدة على توفير مخرج للمحرَجين بشارون والانتفاضة وشلل الادارة الاميركية بسبب الانتخابات الرئاسية، وارتباك باراك في مواجهة حلفائه قبل خصومه الاسرائيليين.
بعد القمة العربية الطارئة جاءت قمة إسلامية طارئة ثم قمة عربية عادية في عمّان (حيث كان يُسمع صدى الرصاص الاسرائيلي وهو يصرع الفتية الفلسطينيين)… وعلى الطريق بين القمم الثلاث ضاع موضوعها الاصلي، عبر ما لعلع فيها من ارقام الدعم (بمليارات الدولارات!!)، وما تبدّى فيها من انقسام حول »أصول الحديث الأنيس في مخاطبة السيد الرئيس«… الاميركي الجديد، الآتي مدموغا بتهمة »العلاقة العائلية« مع العرب، والذي لا بد له من توسيع المسافة بينه وبينهم حتى لا تؤاخذه اسرائيل على انحيازه فلا تسمع منه ولا تستجيب له!
تدريجيا حلت الفضائيات العربية محل الحكومات في تقديم الدعم بالصورة المنقولة مباشرة، من أرض المواجهة، وسرعان ما عززت بعض الفضائيات هذا الدعم بمحاورات ومحادثات ومناقشات مفتوحة مع قياديين إسرائيليين، توكيداً لديموقراطية الصراع وحضارية الطرف العربي فيه، فكان الشهيد الفلسطيني يُشيَّع وسط اتهامات إسرائيلية مباشرة تُنزله بين الإرهابيين الذين يستحقون اقسى العقاب.
بين هذا وذاك كانت المشاورات والاتصالات تتوالى مع الادارة الاميركية الجديدة ومع دول الاتحاد الاوروبي مجتمعة ومنفردة، لعلها تستطيع اقناع ارييل شارون بوقف هجومه العسكري، الساحق، والقبول بالسلطة الفلسطينية كمفاوض… ولو على وجودها!
على امتداد هذه الشهور الطويلة نُظمت مؤتمرات وعُقدت لقاءات وتم ترتيب ندوات وأُلقيت محاضرات، وأمكن »تهريب« بعض التظاهرات… لكنها ظلت جميعاً أعجز من ان تفتح ثغرة في جدار الحصار العربي الرسمي للانتفاضة، خصوصاً ان السلطة الفلسطينية كانت تفضل الدولارات على الجماهير، وتفضل الشفاعة لدى واشنطن على المشاركة في التصدي لأرييل شارون.
ومع الأيام اصاب الجماهير العربية الخدر، وباتت أخبار الانتفاضة وصورها تجيء في موعدها تماماً، وكأنها حلقة جديدة من مسلسل تلفزيوني قد يثير الشفقة او العطفة، لكنه ليس المدخل الى الثورة بأي حال!
بعد سنة فلسطينية مثقلة بالتضحيات (حوالى سبعمئة شهيد وأكثر من عشرين ألف جريح)، لا تبدو »الحركة الشعبية العربية« أحسن حالاً مما كانت قبل الانتفاضة.
انقضى زمن التظاهرات الجماهيرية الغاضبة، إذ تمت السيطرة مرة أخرى على الشارع، ولم يعد يتحرك فيه إلا ذلك الجمهور المنظّم جداً بصفوفه وشعاراته وهتافاته وصور حاكمه بوصفه البطل الاصلي للانتفاضة، والنصير الوحيد لفلسطين، والعدو الأوحد لإسرائيل والذي كان سيدمرها لو ان لبلاده حدوداً مشتركة مع الأرض المحتلة!
اليوم، وبعد التفجيرات الهائلة في واشنطن ونيويورك، تعيش معظم الأنظمة العربية حالة خوف غير مسبوقة، من ان تطالها الشبهة إذا ما تبين ان بعض منفذي عمليات 11 ايلول 2001 يحملون جنسياتها، فتكون ملعونة ويحق عليها العقاب.
ولقد شل الخوف هذه الأنظمة التي تهربت من أي التزام تجاه الانتفاضة، فامتنعت بمعظمها عن التذكير بجرائم شارون، ما دام حديث الإرهاب مفتوحا على مصراعيه، ولم يشيروا الى »ضحاياهم« الابرياء الذين سقطوا على ارض فلسطين وبرصاص قاتل موصوف (لا ينكر هو جريمته بأي حال) وهم يوجهون أرق آيات التعازي الى ذوي الضحايا في واشنطن ونيويورك.
بالمقابل، إن »الحركة الشعبية العربية« تجتهد لأن تبرئ نفسها من تهمة »الإرهاب«، مؤكدة ان دعمها للانتفاضة لم يتجاوز حدود البيانات والخطابات والمقالات والدراسات التحليلية، أي انها كانت بمجملها كلاماً بكلام، ثم إن الذين يتجمعون عادة في المؤتمرات واللقاءات إنما هم بأكثريتهم الساحقة مقاومون متقاعدون يتحدثون بذكرياتهم وعنها أكثر مما عن مخططاتهم المستقبلية… والمستقبل لله، من قبل ومن بعد!
وهكذا، فإن الانتفاضة في فلسطين محاصَرة من الداخل بعجز السلطة والأنظمة والحركة الشعبية العربية، قبل ان تكون محاصَرة من الخارج بتجاهل الإدارة الأميركية وبرودة الاتحاد الأوروبي و»بُعد« الدول الإسلامية التي يكاد يصل خوفها الآن الى حد التنصل من الإسلام والمسلمين.
أما رجال الدين المسلمون الذين يحتلون الشاشات الآن فليتهم يصمتون أو يختفون، ما عدا تلك القلة القليلة من العلماء الأجلاء والمجتهدين الذين يحترمون العقل ولا يخافون حاملات الطائرات الاميركية، والذين يفضلون الانظمة والحركة الشعبية معاً ممن يعرفهم الناس ويأتمّون بهم ويتخذون منهم قادة وموجهين منذ ان برزوا كطليعة فكرية سياسية دينية لحركة المقاومة في لبنان ومجاهديها الميامين!
… والشموع التي أُضيئت ليل أمس تثير من الحزن أكثر مما تذكّر بالأعياد.

Exit mobile version