بعد سنة من تفجّر الغضب الشعبي في معظم الأقطار العربية المحكومة بأنظمة الطغيان التي استطال العهد بها حتى ساد الظن أنها «أبدية، سرمدية وخالدة»، لا بد من مراجعة سريعة لحساب الأرباح والخسائر، بعيداً عن الحماسة والزهو والادعاء بأن «الربيع العربي» قدّم للعالم نموذجاً فريداً في بابه للثورة الشعبية في القرن الحادي والعشرين.
أول ما يستوقف من يتولى المراجعة أن التسمية غير دقيقة، وأنها جاءت مترجمة، فلا أثر للعروبة فيها، بل إن معظم الانتفاضات التي وقعت فانتصرت بإسقاط أنظمة الطغيان، أو هي تقترب من الانتصار، جاء محملاً بشعارات إسلامية، إخوانية وسلفية… وهي معادية للعروبة وترى فيها بدعة استعمارية!
لقد حققت حركات الإسلام السياسي التي نالها قسط كبير من الاضطهاد في الماضي نجاحاً بأكثر من التوقع. ولعل بين قياداتها مَن رأى في ذلك انتصاراً على العروبة، مع معرفتهم ـ وباليقين ـ أن أنظمة الطغيان التي حكمت بالشعار العربي لم تكن أرحم مع «العروبيين» منها مع «الإسلاميين».
وهكذا فلما جاءت لحظة الحقيقة تبيّن أن الطغيان هو الطغيان، بغض النظر عن الشعار الذي يرفعه للتمويه أو لمخادعة الجماهير واكتساب تأييدها… وبالتأكيد فإن أعظم ما أصاب «العروبة» من أضرار أو تشوّهات إنما جاءها من أنظمة الطغيان التي رفعت شعارها ثم قاتلت المؤمنين به حتى قضت عليهم أو حوّلتهم إلى مسوخ وببغاوات يرددون هتافات مناقضة لتطلعاتهم وأحلامهم وتمنياتهم التي نشأوا عليها أيام النضال، إذ تؤلّه الطاغية على حساب العقيدة وتحمي النظام على حساب إيمانها بالعروبة.
ربما لهذا يرى البعض في الانتفاضات التي أسقطت بعض أنظمة الطغيان هزيمة ساحقة للعروبة كعقيدة وكحركة ثورية تهدف إلى استعادة الهوية الأصلية لهذه المنطقة التي مزقت الكيانية حقيقتها المتمثلة في وحدة المصالح والمصير بين شعوبها المنتشرة ما بين اليمن في أدنى المشرق والمغرب في أقصاه عند حافة المحيط الأطلسي.
ولقد علّمنا التاريخ أن الدين ليس هوية للأوطان والشعوب، كما علّمتنا التجارب المعاشة أن استخدام الدين كمعبر إلى السلطة يمكن أن يزلزل الوحدة الوطنية في هذه المنطقة التي شهدت انبثاق الرسالات الدينية جميعاً، والتي تفرّعت فيها الأديان إلى طوائف ومذاهب شتى.
وها نحن نشهد تمزقاً جلياً داخل صفوف «الثوار» في ليبيا لم ينفع في رتقه أن جميع الليبيين هم من المسلمين، ومن أتباع المذهب السني ذاته..
كذلك فنحن نشهد اضطراباً واسعاً في مصر نتيجة الفوز الساحق للإسلاميين، إخواناً وسلفيين، يتجاوز «الأقباط» إلى الكثرة الكاثرة من المصريين الذين يتطلعون إلى توطيد أسس الدولة المدنية التي عاشوا في ظلالها جيلاً بعد جيل والتي يرون في إسقاطها خطراً يتهدد وحدة الكيان الوطني لأعرق دولة في الأرض العربية، وربما في العالم كله.
إن الانتفاضات التي أسقطت بعض أنظمة الطغيان وتخلخل ركائز أنظمة أخرى الآن لم تقدم، ولم يكن مقدراً لها أن تقدم في لحظة تصديها إلى وراثة الحكم، برامج للنهوض الوطني الشامل، خصوصاً أنها ورثت ـ في الغالب الأعم ـ دولاً معتلة الاقتصاد، مخربة مناهج التعليم، مكبّلة بمجموعة من المعاهدات والاتفاقات غير المتكافئة مع دول كبرى، وأحياناً مع أعداء (حتى لا ننسى معاهدة الصلح واتفاقات كامب ديفيد بين السلطة المصرية وإسرائيل).
ثم أن تجلبب هذه الانتفاضات بالشعار الإسلامي يقدم تزكية مجانية إلى أنظمة قمع أشرس وأعنف من كل ما عرفناه عن الأنظمة المتهاوية بفعل الثورة، كانت تغطيه دائماً عبر المبالغة في التطرف باسم الإسلام، إلى حد تحريم أن تقود المرأة السيارة، فكيف بأن تمارس حق الانتخاب، والعياذ بالله.
إن اللجوء إلى الشعار الديني كثيراً ما يكون سببه التنكر للهوية القومية، وبالتالي القفز من فوق المصالح المشتركة والمصير الواحد مع الأشقاء الأقربين بما يجعل واشنطن أو لندن أو باريس أقرب إلى بعض العواصم العربية من القاهرة ودمشق وبغداد…
وها أن النجاحات الانتخابية التي يحققها الإخوان والسلفيون في بعض الأقطار العربية ترتد فتناً طائفية وحروباً أهلية في أقطار عربية أخرى، إذ يتبدى معها أن الإسلام ليس واحداً حين تتم ترجمته إلى عمل سياسي، فإذا الإخوان غير السلفيين وغير الجماعات الصوفية، فكيف الحال بين السنة والشيعة والزيدية والإسماعيلية والعلويين والدروز، (هذا إذا ما أغفلنا ذكر المسيحيين بطوائفهم المختلفة والأقليات اليهودية)، في غياب الإطار الوطني ـ العربي الجامع؟!
من باب الاستدراك، لا بد من القول إنه من المبكر جداً الحكم على الانتفاضات التي تتصدى لمهمة جليلة عنوانها كتابة التاريخ الجديد لهذه الأمة، بأقطارها المنداحة بين أدنى المشرق وأقصى المغرب.
لكن من الضروري التأكيد أن العروبة هي الهوية السياسية الجامعة لهذه الأقطار، وهي التي تعطي الانتفاضات دلالاتها السياسية الكاملة بحيث تحتل فلسطين موقعها المركزي الحاكم، جنباً إلى جنب مع تحرير الأرض العربية من القواعد الأجنبية وتحرير الثروة العربية من ناهبيها المحليين والأجانب.
فالطغيان لم يكن شخص المستبد الحاكم، وإنما معه وفيه ارتهان الإرادة الوطنية والثروة الوطنية لمصلحة المهيمن الأجنبي، أميركياً كان أم أوروبياً، أو المحتل كما الإسرائيلي.
عام أول من الانتفاضة، عربياً.
ما زال الطريق طويلة قبل تبلور الأهداف الحقيقية لهذه الانتفاضات المباركة المقدّر عليها أن تخوض صراعات عنيفة ـ ربما مع الذات ـ قبل أن تتكامل لترسم للعرب جميعاً معالم الطريق إلى الغد الأفضل..
وعسانا نحتفل، مع العام الجديد، باقترابنا من بداية هذه الطريق.