طلال سلمان

انتخابات مصرية نجحت سلطة سقطت ديموقراطية

من حق أهل السلطة في مصر أن يتبادلوا التهنئة على »إنجاز« الانتخابات النيابية: لقد فازوا بالأكثرية العددية المطلقة في »مجلس الشعب« الجديد بأقل الخسائر الممكنة في الشارع (بضعة قتلى وعشرات الجرحى، يسقط أكثر منهم في حوادث السير في مدينة واحدة، وكثير من الاحتجاجات والاعتراضات الفقهية والملاحظات الدولية التي سينساها الناخبون المنهكون بفقرهم وحاجتهم الدائمة إلى السلطة، بعد أيام قليلة).
نجحت اللعبة، وأمكن تجاوز »التجربة الجزائرية« المُرة، حيث تركت السلطة أبواب الديموقراطية مشرعة أمام »الإسلام هو الحل«، فصار الإسلاميون الفائزون ديموقراطياً هم المشكلة التي سرعان ما تفجرت حرباً أهلية امتدت لعشر سنوات، وليس أكيداً بعد أنها قد حسمت… ديموقراطياً!
نجحت لعبة »ختان الديموقراطية« وتقديمها مقسطة: التعديل الدستوري الذي لم تبرره الفذلكة التي حاولت أن تشرحه، فالانتخابات الرئاسية قد عدلت في شكل »الاستفتاء« من دون أن تؤثر على النتائج إلا بإنقاص »النسبة« إلى معدل مئوي لا يستفز الداخل أو الخارج (الأميركي) خصوصاً… بعد ذلك تأتي الشروط التعجيزية للحق في تقديم الترشيحات، والعقبات الكأداء أمام المرشحين المصنفين حزبيين وأحزابهم محظورة، وأمام الأقباط المستبعدين بقرار همايوني عن قوائم السلطة كما عن قوائم خصومها الإسلاميين، مع أنهم يشكلون نسبة لا تقل عن 7/1 من الناخبين، فضلاً عن الألاعيب الصغيرة التي تتقنها الإدارة جيداً عبر تجاربها التاريخية الناجحة…
مع ذلك فإن هذه الانتخابات المضبوطة المجريات والنتائج قد كشفت رعب السلطة من الديموقراطية، في مقابل التشوق المحموم إلى الديموقراطية عند جموع الشعب الطيب والمسالم بطبيعته والذي يصبر طويلاً وربما أكثر مما يجوز على السلطة القائمة، حتى إذا ما تمادت في تغييبه وتجاهل إرادته تفجر غضبه المقدس بركاناً تستحيل السيطرة على حرائقه (1951).
لعلها الحالة الوحيدة، في العالم أجمع، التي تحشد فيها السلطة كل أجهزتها البوليسية للحد من إقبال الناخبين على الاقتراع، حتى لا يجرف فيض الأصوات مرشحيها المختارين فتفقد أكثريتها المقررة.
ندر أن شهدنا جموعاً بهذه الكثافة تزدحم متراصة منذ خيوط الفجر الأولى أمام مراكز الاقتراع، فإذا ما حاول الناخبون والناخبات الوصول إلى »الأقلام«، حيث كانت لجان القيد التي يرأسها قضاة تتولى المراقبة، مُنعوا من الدخول للإدلاء بأصواتهم وواجههم رجال »الأمن المركزي« بالهراوات والقنابل المسيلة للدموع وسد من دروعهم المصفحة، ثم بالرصاص، حتى لا يدلوا بأصواتهم لمرشحين قد لا يكون معظمهم »معارضين«، ثم إنهم لو فازوا تحت عنوان المعارضة فلن تكون لهم قوة تعطيل إرادة السلطة التي ستبقى لها الأكثرية العددية حتى لو نجح جميع »المعارضين« الذين يسهل عليها تحويلهم إلى موالين… فباب الانتساب إلى »الحزب الوطني« بعطاءاته السخية أوسع من باب المسجد وأكثر بريقاً.
ذلك أن المعارضين باستثناء الإخوان المسلمين أشتات من الفرق والتنظيمات والتجمعات وبوّاقي الأحزاب القديمة، لا يجمعهم برنامج موحد، وقد تعذر عليهم بفعل إغراءات السلطة لبعض قياداتهم، أو بفعل عجزهم الذاتي تشكيل لوائح مشتركة… ثم إنهم ليسوا جميعاً من الملتزمين بعقيدة »الإسلام هو الحل«، مع ملاحظة أن »الإخوان« تساهلوا انتهازياً في التوكيد على هذا الشعار.
لقد استهلك العجز عن تطوير الذات وتطوير البرنامج بعض القوى الحية في المجتمع المصري، خصوصاً وهي قد تعرضت لقمع منهجي امتد طويلاً واستمر يطاردها حتى استنزفها تماماً، فلما سمحت السلطة بمساحة محدودة من حرية التعبير كانت قد شاخت وشاخ جمهورها، ولم تنجح في
الوصول إلى قلوب وأذهان الجمهور الجديد الذي لا يعرف ماضيها ولا تعرفه في حاضره، والأخطر أنها لم تعرف كيف تخاطب فيه حقه في مستقبل أفضل، وهكذا سقطت في فجوة التخلف عن مجاراة وتيرة التقدم والتحولات في المجتمع (والعالم..)، مسطرة نهاية مأساوية لرجال ماضيهم مشرف لكن مستقبلهم خلفهم (نموذج خالد محيي الدين).
* * *
إنها تجربة جديدة تدل مرة أخرى أن الديموقراطية ليست حصيلة انصياع السلطة المحلية للأمر الدولي (الأميركي أساساً)، بإجراء انتخابات مضبوطة النتائج ضمن مشهد فولكلوري قابل للتحول إلى مأساة شعبية.
وإذا كانت الانتخابات النيابية بالأمر الدولي قد أنتجت في لبنان أكثر البرلمانات طائفية ومذهبية في تاريخ هذا البلد، فإن مجلس الشعب الجديد في مصر لن يكون الناتج الديموقراطي لهذه الانتخابات التي حكم الرعب من نتائجها المحتملة سلوك السلطة في مصر فلطختها بدماء الناخبين الذين لم يكونوا بصدد تنفيذ مؤامرة لقلب نظام الحكم.
أما الانتخابات بالأمر الأميركي في العراق غداً فلن تكون بأي حال ضمانة لوحدة بلاد الرافدين ضد مشاريع التقسيم الطائفية والمذهبية والعنصرية.
فالديموقراطية لا تلقى كعلب الهدايا من الجو، ولا يأتي بها التخويف بالحرب الأهلية بديلاً، كما أنها لا يمكن أن تكون مضادة للوحدة الوطنية بل هي تكون ضمانة لها أو لا تكون ديموقراطية على الإطلاق.
وطالما استمر الرعب من »الحل الإسلامي«، الذي لم يعرفه أحد، يحكم تصرفات الأنظمة فتلجأ بخوفها إلى حماية الخارج، وتتملقه باصطناع ديموقراطية شكلية، فلسوف نزداد بُعداً عن الديموقراطية وعن الحلول الجدية لمشاكلنا وهمومنا الثقيلة، ولن نجد طريقنا إلى الغد الأفضل.
هل ترى عند القمة الإسلامية المنعقدة في ظلال الحرمين الشريفين، ما تقدمه لحل هذه المعضلة التي تباعد بين الحاكم والمحكومين في ديار الإسلام، وتبقيها خارج العصر، وخارج القرار في شؤونها الوطنية؟!

Exit mobile version