طلال سلمان

انتخابات فلسطينية ووظيفتها سياسية

مبروك لفلسطينيي الداخل انتخاباتهم النظيفة،
لقد أكدوا فيها وعبرها ما لم يكن يحتاج الى تأكيد: فلسطينيتهم كهوية، تمسكهم بأرضهم، عشقهم للحرية وحرصهم على إثبات أهليتهم »كمجتمع مدني متحضر«.
وعبر المشهد الراقي الذي قدمه فلسطينيو الداخل بانتخاباتهم أثبتوا أنهم يستحقون أكثر بكثير مما »مُنحوا«، وأنهم أوعى بكثير مما »صُنِّفوا«، وأنهم أعمق إيمانù بالديموقراطية من قيادتهم الرسمية كما من قياداتهم السياسية إجمالاً.
كان بوسع بعض قواهم السياسية، في الداخل خاصة (وحماس بالذات)، أن تشاغب، أن تشوِّش، أن تغلِّب عصبيتها الحزبية فتحاول تخريب الانتخابات باعتبارها إنجازù لخصمها، أو تشويهها بتصعيد الدعوة إلى المقاطعة والتحريض عليها والطعن بالنتائج قبل إعلانها والخروج من الأمر كله حرصù على »الطهارة«!
وكان يمكن للسلطة أن تكون أكثر حدة في التضييق على المرشحين »المعارضين«، على قلتهم، وعلى الرغم من أن كتلتهم الأساسية تجنبت أي احتكاك فلسطيني فلسطيني،
لكن الجميع كانوا حريصين على »صورة الفلسطيني« في عيون العالم… ومن هنا تنافس المعارضون مع جماعة السلطة على إظهار الإيمان بالديموقراطية، من خلال اعتراف كل طرف بالطرف الآخر وقبوله به، وإرجاء المسائل الخلافية وما أكثرها إلى موعد مرجأ حتى لا تفيد إسرائيل من أي خطأ أو خطيئة إضافية للتشهير بالفلسطينيين وعجزهم عن إدارة شؤونهم بأنفسهم.. وبالتالي بطلان مطالبتهم بالاستقلال الناجز والدولة العتيدة بعاصمتها القدس أو شطر منها؟!
* * *
مبروك لفلسطينيي الداخل انتخاباتهم النظيفة… من السياسة!
إنها أول (وآخر؟) انتخابات تبدأ وتحتدم »معاركها« وتنتهي من دون أي جدل سياسي، داخلها، ومع انعدام القدرة على تحديد »ألوان« المرشحين، الفائز منهم والخاسر، الذين لم يكن لأي منهم ولا لمجموعهم أي برنامج أو أية أهداف معلنة تتصل بالسياق الطويل والدموي للنضال الوطني للشعب الفلسطيني، في كل أرض عربية كما في »الداخل« على امتداد نصف قرن أو يزيد..
وفي ما عدا ما هو معروف عن قلة من الشخصيات المحترمة بماضيها النضالي (الدكتور حيدر عبد الشافي، مثلاً)، فإن الكثرة الساحقة من المرشحين (وبالتالي من الفائزين) ينتمون إلى »حركة« سياسية واحدة (فتح) لم تعرف عبر تاريخها لا بدقة برنامجها السياسي ولا بتعصبها العقائدي.
منذ »الرصاصة الاولى« في 1/1/1965 وحتى »تشريع« رئاسة رئيسها الاوحد، ياسر عرفات، في 20/1/1996، ظلت »فتح« مستعصية على التصنيف السياسي، بل كانت »بطبيعتها« معادية للعقائد والايديولوجيات، يفاخر قادتها بأنهم »براغماتيون« و»متحولون« و»عمليون« بغض النظر عن منابتهم الفكرية.
و»فتح« الداخل، الآن، صورة ممسوخة عن »فتح« الخارج. صحيح ان »فتح« مثلت دائما »السلطة«، حتى خارج الارض الفلسطينية، لكنها الآن السلطة ولا شيء آخر.
ولقد كانت دائما معرضا نموذجيا للتناقضات والتيارات المختلفة، الثورية والانتهازية، الاسلامية الماركسية القومية الكيانية العنصرية الرجعية التقدمية المضبوطة الايقاع بعصا »الساحر« الماهر الماكر المناور الشاطر التاجر الفاجر الثائر المساوم المقاتل المفرط الحالم الحاكم المخادع المخاتل الموقع من قبل التفاوض خارق الاتفاق قبل جفاف الحبر، الضاحك في قلب المأساة وبلا سبب مفهوم، الباكي بينما الكل يضحكون، القوي بقضيته، الرديء بخطابه ولغته، والضعيف بتجسيده لواحدة من اخطر قضايا العصر واقدسها.
***
مبروك لفلسطينيي الداخل انتخاباتهم النظيفة… من السياسة!
لقد نجحوا في الامتحان الذي فرض عليهم لاثبات انهم مخلوقات طبيعية…
اثبتوا انهم يعرفون كيف يدخلون الى مراكز الاقتراع، حتى لو كانت محروسة ومراقبة جيدا ومصورة، وكيف يكتبون الاسماء على الاوراق، وكيف يضعون المظاريف (الحمراء والبيضاء) كل واحد في صندوقه، ثم كيف يخرجون ويصرحون ويشهدون بالحرية والنزاهة، ومن بعد: كيف يفرزون الاصوات ويعلنون النتائج واسماء الرابحين وعدد ما ناله كل منهم من الاصوات!
لم يخلِّوا ببند واحد من البنود الاجرائية، والتزموا بانجاح الانتخابات كعملية تقنية، فانهالت عليهم الشهادات والتبريكات والاشادات بهم كناخبين، وبالانتخابات وكأنها حدث خارق في بابه،
وفي الكثير من الاشادات التي وجهت الى عرفات والانتخابات التي أكدت وحدانيته اساءات بالغة الى التراث النضالي العظيم للشعب الفلسطيني،
لقد عومل الفلسطيني وكأنه طفل قاصر، او انه مخلوق خارج لتوه من جاهلية لم تبلغه في دياجيرها التوراة ولم يثقِّفه التلمود بأصول ممارسة الديموقراطية،
لذا كان لا بد من »المراقبين« وشهادات التزكية،
اما المواطن العربي فقد قبل هذه الانتخابات بكل علاتها، لانه لا يملك ما هو أفضل منها كمعيار او كمقياس للحكم!
يكفي ان يقارنها بأية انتخابات جرت في اي بلد عربي، وآخر النماذج ما جرى في مصر والجزائر،
اما اذا كان النموذج لبنان فالمقارنة لا توفر للفلسطيني، قدوة صالحة لا في الشكل ولا في المضمون،
ثم انه ألف ان تكون »برلماناته« مؤسسات غير سياسية، الفارق الوحيد ان الحاكم هو من يصادر البرلمان عربيا، في حين ان اسرائيل هي من يصادر المجلس التشريعي الفلسطيني، وقراراته غير السياسية!!
على ان المشهد الحضاري الفلسطيني وفر للمراقبين الدوليين اي للعالم كله بمن فيه العرب! فرصة نادرة ليشهدوا لتسامح اسرائيل، وعميق ايمانها بالديموقراطية، مجتمعا ودولة، جيشا وشرطة وحرس حدود.
بالمقابل لم تتأخر اسرائيل عن توكيد الوظيفة السياسية لهذه الانتخابات (بكل مظهرها الديموقراطي)، اذ طالب شمعون بيريز عرفات بعد كلمات التهنئة والاشادة بتحديد موعد نهائي لعقد المجلس الوطني الفلسطيني (القديم)، من اجل تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني وشطب منظمة التحرير الفلسطينية بكل تاريخها وشعاراتها ومطامحها، وجعلها نسيا منسيا.
اذن، هذه هي الوظيفة السياسية المحددة لهذا المجلس التشريعي غير ذي الصفة سياسيا، و»الرئيس« المنتخب الآن بأكثرية ساحقة، ولهذه الانتخابات التي جرت خارج »السياسة«.
ديمقراطية خارج السياسة؟!
ديمقراطية خارج القضية الوطنية؟!
ديمقراطية في خدمة الاحتلال؟!
ديمقراطية يوظفها الاحتلال ضد الاهداف الطبيعية للشعب الفلسطيني؟
لكأن الاقتراع على وجود اسرائيل لا على استيلاد فلسطين، على ما يؤمن الكيان الصهيوني لا على ما يستحضر الكيان الفلسطيني.
ولا يغير من طبيعة هذه الوظيفة ان تتبارى الانظمة العربية (غير المنتخبة بمجملها) في الاشادة بها،
فالحقيقة ان عرفات قد ادخل الفلسطينيين في النظام العربي، ولكن من الباب الاسرائيلي،
وغدا »سيدخل« اعضاء المجلس الوطني، الذين وجهت اسرائيل الدعوة اليهم رسميا، لكي يعلنوا التنازل عن جوهر القضية الفلسطينية.
على ان كل شيء يتم ديمقراطيا، ووفق الاصول، وتحت رقابة دولية و»تسليم« عربي، لغياب البديل، اي بديل!!
أليس أمرا يذكر بالاغتيال، ولكن »على الطريقة الشرعية«؟!!

Exit mobile version