طلال سلمان

انتخابات فرنسية لغة لبنانية

لأن الانتخابات لعبة متفجرة، يستحسن أن تجري بعيدù عنا في الخارج، وأن نكتفي نحن بمتعة الفرجة مجانù، بينما »الشر بره وبعيد«!!
ويستطيع من اعطاهم الله، كمثل رئيس الحكومة، وبعض المعنيين والمشغولين بالقضايا الدولية الكبرى، أن يركبوا طائراتهم الخاصة، وأن يقصدوا باريس (أو روما برلوسكوني) ليشاركوا رمزيù أو روحيù، عاطفيù أو ماديù في متعة »العيد« أو مهرجان التجدد المسمى الانتخابات،
أما عباد الله من الفقراء وبقايا الطبقة الوسطى فقدرنا وإياهم ان نتفرج على الانتخابات، من دون أن نمارس لعبتها الخطرة والمحرمة (دوليù!!) على الشعوب التي لما تبلغ سن الرشد!
فأن تنتخب معناه انك حي، انك صاحب رأي، أن لوجودك معنى، وانك تستطيع أن تختار وأن تقرر، وكل هذا فوق طاقة القاصرين!
تكفيك اذاً متعة الفرجة او حسرتها، بحسب »حزبيتك«، وهل انت اشتراكي جوسباني أم يميني شيراكي، أم متطرف في حب البيئة ورعايتها بحيث تنحاز الى حزب أقلية الاقلية: الخضر؟!
وبفضل السيولة الاعلامية (غير الشرعية؟!) يمكنك وأنت جالس فوق اريكة مريحة في منزلك ببيروت، أو في اية جهة من لبنان، أن تستمتع باستعراض ما تبثه الشاشات المتعددة الاسماء والارقام والاقنية من تفاصيل التفاصيل عن وقائع الانتخابات الرئاسية الفرنسية (أو ألغاز الانتخابات البلدية الايطالية)، وانت بمنأى عن مخاطر التجربة المباشرة وشرورها الكثيرة.
كذلك، بفضل مناخ الحرية في لبنان، وفي رأسها حرية المقامرة، لك أن تدخل في مراهنات، وأن تستبق موعد الانتخابات الرئاسية العتيدة في الولايات المتحدة الاميركية بتحديد ميلك وهواك، من دون وجل، فلك أن تكون ديمقراطيù وتؤيد التجديد لبيل كلينتون، أو لك أن تكون »جمهوريù« وضد التمديد أو التجديد لأنك مع التجدد… ولا خوف عليك ولا تثريب!
ولنا أن نعيش هواجس القلق والخوف من نتائج الانتخابات الاسرائيلية، بعد سنة وبضعة شهور، ومن الاستفتاء الشعبي لاختيار رئيس وزراء المرحلة (أو الحرب) المقبلة،
كل ذلك أهون من أن نتحمل نحن، مباشرة، نتائج أي انتخابات تجري في بلادنا، ولو على مستوى اتحاد الطلبة، أو نقابة عمال الخضار، فكيف لا قدر الله بالانتخابات البلدية، أو بالهمّ الأعظم: الانتخابات الرئاسية؟!
***
ما زلنا ننظر الى الانتخابات وكأنها »اختراع« خبيث، او »بدعة« تكمن فيها »الضلالة«، او حدث خارق لا يأتيه الا العمالقة من البشر، وان وقوعه هو ذروة الخطر، بصرف النظر عن النتائج التي قد يتمخض عنها!
وفي حين يتعامل »الآخرون«، ممن ضلوا سبيلهم الى الحرية، مع الانتخابات بوصفها مؤشراً حاسماً على التحولات داخل المجتمع يكشف مدى تطوره وفي اية وجهة، لرسم السياسات (اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وامنياً) في ضوئها، فإنهم يصرون في بلادنا على التعامل مع المجتمع (الشعب) وكأنه طفل قاصر او عجوز خرف او مخلوق غير سوي لا يجوز ان يترك له شأن خطير، كاختيار نوابه او رئيسه، فضلاً عن اعلان رأيه في نمط الحياة التي يرغب فيها!
اي اننا نعلن عدم اهليتنا لأن نقرر مصيرنا مرتين:
الأولى حين نرجئ كل شيء ونعلق كل شيء على انتخابات الآخرين، ولا سيما الأعداء منهم،
والثانية حين نتخلى عن ممارسة حقنا الانتخابي، ونحاول تجنب كأس الانتخابات المرة عموماً، البلدية منها والرئاسية، وكأنها رجس من عمل الشيطان او إيقاظ للفتنة النائمة!
***
لأن اللبنانيين ملوك الابتكار، فهم قد عززوا الدعوة الى تحريم الانتخابات او تجنب شرها، بالادعاء انه لا مجال للانتخابات ما دام انه لا بديل من شخص الرئيس، اي رئيس!
لا بديل من رئيس الجمهورية، لأن احداً لا يستطيع ان يتحمل ما يتحمله ولا يستطيع الاستمرار في ما هو فيه فكيف بإكماله!
لا بديل من رئيس الحكومة، لأنه الوحيد القادر على انجاز ما وعد بإنجازه، من تحويل لبنان الى ورشة عمل لا يعرف الا الله متى تنتهي اعمالها في مختلف المجالات، وابرزها تضييق الطرقات وآخرها تضييق مجالات الرزق والكسب المشروع،
كذلك لا بديل من الوزراء الثمانية والعشرين من حملة الحقائب، وابرز دليل على ذلك ان الوزير الذي اخرج من حقيبة الداخلية لمّا يمكن تعويضه والارجح ان مقعده في مجلس الوزراء سيظل شاغراً لافتقاد البديل.
طبعاً، لا بديل من رئيس المجلس النيابي، ومجرد التفكير في مثل هذا الامر دليل على الطيش او الهوس او غربة عن واقع البلاد والعباد.
استطرادا، لا بديل من النواب المئة والثمانية والعشرين، خصوصا أن ولادتهم بذاتها كانت عجائبية ومغايرة لكل نواميس الطبيعة!
في المقابل، لا بديل من قائد الجيش الذي نجح في إقامة المؤسسة الوحيدة في »الجمهورية الثانية« بحيث بات يقال: نريد دولة لهذا الجيش،
وبموجب قانون التوازن فلا بديل من المجلس العسكري الذي صار أعضاؤه »ألوية«: لكل طائفة من يحمل لواءها بغير امتياز أو تمييز!
ولا بديل من أي صاحب موقع فعلي في السلطة، من الحاجب على باب المدير، الى رئيس المصلحة وانتهاءً برئيس مجلس الادارة أو المدير العام!
إنها لعبة »بازل«: لكل قطعة موضعها، فإن اختل موضع تعطلت اللعبة وانفجرت البلاد بأهلها المساكين!
أما الشعب فله بدائل تتوفر بغزارة في مختلف الاذاعات والتلفزيونات والبيانات والخطب، الحزبية منها والرسمية!
لا بديل، إذù، لا انتخابات ولا مخاطرة بخسارة القائم بالأمر والاندفاع نحو كفّ عفريت (وهو مفتوح دائمù في لبنان)!!
لا بديل، إذù، فلتجمد الشمس في مكانها من كبد السماء، ولتتوقف الكرة الأرضية عن الدوران حولها، حتى لا نعيش في ليل دامس ونصبح على ما فعلنا نادمين!
***
الرئيس هو الطائفة،
والطائفة لا تنجب أكثر من رئيس واحد في الحقبة الواحدة (أما سائر المواليد فيندرجون في خانة الرعايا..).
على هذا، فالانتخاب اعتداء خطير على الوحدة الوطنية، يعادل الخيانة العظمى، ولا سيما أنه في مستوى المؤامرة على الكيان النهائي والمقدس!
فهل يستحق أي انتخاب مقامرة بمصير الأرض والشعب والمؤسسات (؟!!)، أم من الحكمة »تجميد« كل شيء حرصù على السلم الأهلي وجمهوريته الخالدة خلود رؤسائها؟!
ذلك أن استيلاد »البديل«، بالانتخاب، لا سمح ا”، يعني مخاطر لا تحد، قد تصل الى حد التلويح بتجدّد أو تجديد الحرب الأهلية،
فإذا كانت »الدولة« نتيجة تحالف بين الطوائف، عبر الرئاسات والوزارات والنيابات والادارات، فإن أي تغيير في الأشخاص، يهدد بخلخلة تلك التحالفات أو ربما بنسفها!
ذلك أن الرئيس هو طائفته، والطائفة تختزل نفسها أو يتم اختزالها بالرئيس!
ودول الدولة بعدد طوائفها، أي بعدد رؤسائها: فلكل رئيس طائفة أو طائفة رئيس دولة مستقلة ذات سيادة،
وتغيير الرئيس قد يعتبر اعتداءً خارجيا على الطائفة يمس كرامتها من خلال هزّ موقعها في المعادلة الداخلية للدول اللبنانية المستقلة!!
وبالتالي، فلا بد من إعادة صياغة لمعادلة التحالفات الدقيقة جميعا كلما قضت الأقدار بتبديل هذا الرئيس أو ذاك،
أي أن عليك أن ترجع إلى »مؤتمر طائف« جديد، قبل أن تمتد يدك نحو صندوقة الاقتراع بالورقة الحاملة رأيك في رئيس البلدية أو المختار؟
هل أصلب من تماسك بلد تهده ورقة اقتراع أصغر من راحة الكف؟!
***
الآن وقد تعلّم رئيس حكومتنا كيف يمكن إجراء انتخابات رئاسية في بلد واضح الانقسامات السياسية كفرنسا، لعله يأتينا بجديد كمثل أن الحكم استمرارية، و»ان الحكم أهم من الحاكم، والدولة أهم من الحكم، والوطن أهم من الجميع«،
… وهي كلمة قالها الرئيس الفرنسي الأسبق (اليميني) فاليري جيسكار ديستان وهو يسلم الحكم الى الرئيس الحالي (الاشتراكي أصلا) فرنسوا ميتران، الذي قد يقول بأسلوبه المتميز ما يعادلها غدا وهو يعيد »الأمانة« الى »أصحابها«، من أصدقاء رئيس حكومتنا »الشيراكي« بأكثر مما كان إدوار بالادور…
لعل رئيس الحكومة يعود إلينا ومعه صندوقة سحرية بها فتحة في أعلاها، توضع عبرها أوراق صغيرة بالأسماء المختارة، فيخرج منها الرؤساء، من دون أن تدخل البلاد في حروب أهلية، ومن ان يعتبر الاختلاف في الرأي جريمة يعاقب عليها قانون الرؤساءالبلا بدلاء!

Exit mobile version