طلال سلمان

انتخابات عراقية حوار في لبنان اصلاح نظام حرب على مقاومة

ليست بغداد بعيدة عن بيروت، ولا طبعاً عن دمشق وعمان كما عن الكويت والرياض وصنعاء فضلاً عن القاهرة… وبالتالي فلسوف تشكّل العملية الانتخابية التي أنجزت في العراق، أمس، حدثاً بارزاً، وربما نقطة تحوّل في الحياة السياسية العربية.
ولقد يرى البعض في إنجاز الانتخابات شهادة تزكية للاحتلال الأميركي، لكنها في حقيقة الأمر تعكس تشوّق العراقيين إلى العودة إلى حياة طبيعية، كشعب واحد، حاضره واحد، ومستقبله واحد، ومصيره واحد، وإن تعددت الأديان والطوائف والعناصر المكوّنة لبلاده «التاريخية».
حتى مواجهة الاحتلال والتحرر منه يحتاجان إلى هذه الوحدة كشرط لا بد منه.. فلا يمكِّن للاحتلال ويديمه إلا الاختلاف الداخلي الذي يسهل إخراجه من ميدان الصراع السياسي إلى حومة الاقتتال الأهلي عبر تحوير طبيعته ليصير صراعاً بين الطوائف والمذاهب والعناصر على السلطة ومواقع القرار فيها.
ولقد تكون هذه التجربة العراقية مفيدة للطبقة السياسية في لبنان التي دعا رئيس الجمهورية معظم البارزين من رموزها إلى طاولة الحوار مجدداً، بعد إعادة تشكيلها، ما أدى إلى استبعاد البعض من زعامات الطوائف لإحلال آخرين مكانهم بالاستناد إلى نتائج الانتخابات النيابية التي يعرف الجميع أنها لم تكن «طبيعية» لا بقانونها الستيني ولا بالحمى الطائفية والمذهبية التي رافقتها، ولا بالتدخل العربي ـ الدولي الذي ضبط إيقاعها حتى لا تكون سبباً إضافياً لتفجير الوضع المأزوم الذي يعيشه هذا الوطن الصغير منذ العام 2004، وقرار التدخل الدولي الشهير 1559، بكل التداعيات المأسوية التي نجمت عنه والتي ما زال لبنان يعيش تداعياتها حتى اليوم.
يمكن، بداية، القفز من فوق ملاحظة أن الأمين العام للأمم المتحدة هو من دعا إلى عقد طاولة الحوار، وحدد لها موعدها، وكاد يحدد لها جدول أعمالها.
ويمكن القفز من فوق طريقة توسيعها والتنسيب إلى عضويتها،
لكن ما لا يمكن السكوت عنه هو محاولة بعض المدانين بالتعامل مع إسرائيل تحديد جدول أعمال الدورة الجديدة لهذه الطاولة التي يعتقد كثيرون أنها ستستخدم كمنصة لإطلاق الصواريخ السياسية من قلب القصر الجمهوري على المقاومة ممثلة بـ «حزب الله»، وتجاوز دورها العظيم في تحرير الأرض (أيار 2000) بعد سنوات من التضحيات والجهاد المستند إلى الكفاءة والعلم والمعرفة اليقينية بالعدو الإسرائيلي، وكل ذلك سيتبدى جلياً في مواجهة الحرب الإسرائيلية صيف العام 2006.
كذلك، فإن فتح الباب لإعادة النقاش حول النظام الطوائفي سيظهر قدراً من الصراعات على مواقع الزعامة داخل بعض الطوائف عن طريق إثارة موضوعات خلافية داخلية حساسة، فضلاً عن أن تجار المزايدات سيعيدون طرح موضوع السلاح الفلسطيني وصولاً إلى مخاطر التوطين، قافزين من فوق الحقيقة الموجعة المتصلة بالأساليب غير الإنسانية المعتمدة في التعامل مع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
وبديهي أنه لا رئيس الجمهورية ولا أي طرف له مقعد إلى الطاولة، ولا مجموع المشاركين، سيكون بمقدورهم أن يقرروا جديداً في صيغة النظام والصلاحيات.
فهذا النظام الذي وُلد «أشوه» يستعصي على الإصلاح، بدلالة التجارب المتكررة لجعله أكثر عدلاً وأكثر اتصالاً بشعبه ومعبراً عن طموحاته.
هل من الضروري التذكير بكيفية استيلاد هذا النظام ومسيرته الحافلة بالحروب الأهلية والتفجرات التي كانت تدفن بعد اتخاذها سياقاً طائفياً، لأن ذلك يستدعي «الدول» فتبادر إلى نجدة النظام بتعديلات تزيينية لا تغيّر من طبيعته.
[ [ [
أنشئ الكيان السياسي في لبنان، سنة 1920، بقرار خارجي، وفي ظل خلاف داخلي عميق يتجاوز طبيعة «النظام» إلى «مكوّنات» هذا الوطن الصغير وحدوده وعلاقاته بمحيطه، وسوريا أولاً وأساساً.
نظرة واحدة إلى الصورة التذكارية لإعلان قيام «دولة لبنان الكبير» وقد احتشد فيها بعض أهل السياسة وبعض كبار رجال الدين من حول الجنرال غورو، قائد جيش الاحتلال الفرنسي في لبنان وسوريا، تكفي للدلالة ليس على استثنائية اللحظة السياسية فحسب، بل أساساً على خطورة العملية القيصرية التي تمت بها عملية استيلاد هذه الجمهورية التي تمّ «تنسيب» بعض «رعاياها» إليها من دون علمهم وغالباً من دون موافقتهم.
على امتداد الأعوام التسعين من عمر هذا الكيان، توالت الاعتراضات على نظامه. وكانت جدية بحيث انها لم تنتهِ مع إعلان «استقلال الدولة» وجلاء قوات الانتداب الفرنسي نهاية العام 1943…

وهكذا كان أول انفجار مؤثر مع التجديد للرئيس الاستقلالي الأول الشيخ بشارة الخوري في العام 1949 ما أدى إلى استقالته وغيابه عن المسرح السياسي في صيف 1952.
تكرّر تفجّر الاعتراض، وعلى الرئيس وسياساته، في صيف 1958 وبما يشبه «الثورة»… ثم في العام 1968. ومع بدايات 1975 انقلب الاعتراض إلى حرب أهلية، خصوصاً مع دخول «الثورة الفلسطينية» كطرف في اللعبة السياسية الداخلية، مستدعياً التدخل السوري الذي سرعان ما وجد تغطيته العربية والدولية (قوات الردع العربية).
ظلت المشكلة هي هي: الاعتراض الداخلي على النظام مع الاختلاف حول هوية البلاد وشعبها.. ولسوف يتواصل هذا الاعتراض ويعنف بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، حتى عاصمته بيروت، ودخول «العدو» طرفاً في الصراع الداخلي، حيث «انتخب» رئيسان للجمهورية، بالتعاقب، في حماية الدبابات الإسرائيلية.
مطلع العام 1984 حُسمت ـ رسمياً ـ مسألة «الهوية العربية» للبنان في مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في جنيف تحت رعاية سورية ـ سعودية مشتركة (وتحت مظلة أميركية معلنة). لكن الحرب الأهلية لم تتوقف حتى بعد مؤتمر الطائف في خريف 1989، حيث أقرت التعديلات الأساسية على النظام، وإن اتخذت صيغاً مختلفة.
فإقرار التعديلات الدستورية سرعان ما استولد اعتراضات من طبيعة مختلفة: صارت العناوين تتصل بصلاحيات رئيس الجمهورية ومواقع الطوائف وحصصها وصولاً إلى النظام الانتخابي (النسبية، حقوق المرأة، حقوق الشباب… إلخ).
بالمقابل كانت حركة المقاومة الوطنية ومن ثم الإسلامية التي نشأت لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ابتداءً من 1978، والتي تعاظم دورها بعد الاجتياح الإسرائيلي وصولاً إلى بيروت في صيف 1982، تنمو بالتضحيات الغوالي وتلعب دوراً حاسماً في التحرير بعد مواجهات بطولية امتدت حتى 25 أيار 2000.
وكان طبيعياً أن تصبح حركة المقاومة طرفاً مقرراً في قلب النظام، خصوصاً مع تحولها إلى أكبر حزب سياسي، ليس في لبنان فحسب، بل في المنطقة العربية كافة، وأن يتعامل معها، رسمياً، ممثلو معظم الدول (الغربية والشرقية باستثناء الولايات المتحدة الأميركية) وأن يعترفوا لها بدورها الوطني كطرف سياسي مؤثر في اللعبة السياسية المحلية، فضلاً عن وهجها العربي والإسلامي بل الدولي.
وكان طبيعياً، بالتالي، أن تدخل هذه المقاومة ممثلة بحزبها السياسي إلى «النظام» لا سيما وقد بات لها كتلة نيابية مؤثرة، وممثلون في الحكومة (وزيران)..
[ [ [
ماذا يمكن لهذا الحشد المدعو إلى التحاور أن يقدمه للبنان في هذه اللحظة من الاضطراب السياسي (وشبه الحربي) الذي يجتاح المنطقة برمتها؟!
ماذا تفيد العودة لإثارة المواضيع الخلافية غير النفخ في نيران الفتن الطائفية في لحظة فيها تشتد الحاجة إلى التضامن الوطني الشامل في وجه التهديدات الإسرائيلية العلنية التي نراها بالعين المجردة عبر المناورات العسكرية شبه اليومية لجيش العدو… فضلاً عن اختراقات طائراته لأجواء لبنان كله على مدار الساعة؟
ومع التسليم ببراءة القصد عند رئيس الجمهورية فالمرجــح أن طاولة الحوار التي استبعدت رموزاً وطنية ذات تاريخ مـــضيء، في حـــين احتشد من حولها بعض غير المستحقين، لن تنجــــح إلا في حرف الحوار عن استهدافاته الأصلية وإغراق الــبلاد في جولة جديدة من جولات الشــحن الطائفي الذي لا يمكن أن يؤدي إلى إصلاح من أي نوع.
ومع الأسف فإن الإصلاح الفعلي للنظام سيظل متعذراً في غياب القوى المؤهلة على إنجازه.

Exit mobile version