طلال سلمان

انتخابات شمال بين تاريخ وطني حمى طائفية

فرض القرار الدولي باستعجال الانتخابات النيابية في لبنان بمعزل عن قانونها الذي كان موضع اعتراض واسع، أن تأتي النتائج محكومة إلى حد كبير بالأجواء التي ألهبها دم الرئيس الشهيد رفيق الحريري المراق ظلماً في قلب بيروت التي أرادها عاصمة للغد.
ارتأت »الدول«، لحسابات تتجاوز حدود لبنان، أن توقيت الانتخابات أهم من قانونها، برغم أن التداعيات الهائلة لجريمة الاغتيال ومحاولة توظيفها كانت تنذر بأن التحالفات والتعارضات والمنافسات ستتخذ سياقاً طوائفياً محموماً، خصوصاً أن سيف القرار الدولي 1559 باستهدافاته اللبنانية كان مصلتاً فوق الرؤوس، يعزز مواقع بعض القوى ويمنحها القدرة على التجرؤ على »محرمات ونقض تعهدات ومواثيق تشمل في ما تشمل اتفاق الطائف والمقاومة ممثلة ب»حزب الله« والوجود الفلسطيني في لبنان.
وليس عند »الدول« محرمات، فمصالحها هي البداية والختام، ومن أجل هذه المصالح لا تتورع عن توظيف مخاطر الفتن، أو عن استثمار وجوه الخلل في المجتمعات، أو الاتجار بالمقدسات…
وهكذا فرض على الشمال، بعاصمته، طرابلس الفيحاء، وبأقضيته كلها، أن يدفع غرم الشحن الطوائفي الذي سبق أول جولة انتخابية ثم تصاعد وعَنُفَ مع كل منها حتى بلغ ذروته عشية هذه الجولة الأخيرة والحاسمة في تحديد أوزان الكتل داخل المجلس النيابي الجديد.
ولم تحاول »الدول« أن تخفي أغراضها، وبينها أن تنهي ديموقراطياً أسس التوازن الهش الذي تصدع مع جريمة اغتيال الرئيس الحريري، وهو أحد أخطر المرجعيات السياسية في البلاد، منذراً بالتهاوي مع تفاقم الأجواء المذهبية والطائفية التي حكمت نتائج الجولات الانتخابية الثلاث.
لقد تصدع التوازن، ولم تسقط السلطة، بل إن هذا التصدع قد وفر للسلطة مدداً طائفياً كانت بأمسّ الحاجة إليه، وأعاد خلط الأوراق في ضوء »استفاقة« الطوائف وتنبّهها إلى خطر إعادة صياغة السلطة في غيابها أو على حسابها.
وهكذا فإن الطروحات الطائفية أخذت تبرز إلى السطح، أكثر فأكثر، مع كل جولة انتخابية، مستحضرة ذكريات مفجعة، استخدم فيها الغرض السياسي الدم و»التحالف مع الشيطان« للإمساك بالسلطة، التي باتت الآن »الضمانة« الأخيرة: تريد كل طائفة حصتها منها لحماية ما يتجاوز »مكتسباتها« أو »حقوقها« إلى وجودها ذاته. كما صدحت وتصدح مقابلات المرشحين المكتوبة والمسموعة والمرئية، حيث تجاوز الجميع حذرهم من اتهامهم بالطائفية إلى المجاهرة بدفاعهم عن »المصالح المشروعة« لطوائفهم!
وهكذا فإن الجولات الانتخابية الثلاث السابقة ستعطي ثمارها في الشمال، والطروحات الطائفية التي كانت مموّهة من قبل باتت معلنة الآن، بلا تمويه.
والحقيقة أن الانتخابات بعامة تجري خارج السياسة.
لقد تمّ إلغاء السياسة منذ زمن بعيد، وتمّ تعقيم المجتمع وتعطيل تفكيره والاهتمامات العامة للمواطن.
تمّ تدمير الأحزاب العلمانية، وتمّ امتهان العقائد والإيديولوجيات التي تبشّر بغد أفضل للناس جميعاً، باعتبارهم مواطنين لا رعايا طوائف ولا مجرد أتباع و»زلم« لبيوتات وزعامات ووجاهات عشائرية أو جهوية.
صارت الأحزاب من الماضي.. والمرشح الذي كان حزبياً لا يفتأ يتبرأ من ماضيه »المراهق«، وصارت العقائد دليل غربة عن الواقع، وفرض على الناس أن يهجروا العصر عائدين إلى تكوينهم البدائي.
وهكذا انعدم المعيار السياسي للتمييز، ومن ثم الاختيار على قاعدة صلبة من اليقين ومن الوعي السياسي الذي يحاكم المرشحين على أساس برامجهم. عادت العاطفة أو الهوى أو الولاء بين أسس الاختيار، ودائماً بالانطلاق من مصلحة الطائفة وموقعها في النظام.
البعض يحارب لتثبيت اتفاق الطائف قاعدةً للانطلاق في بناء النظام الجديد، مفترضاً فيه أنه يحقق التوازن المنشود في السلطة بما يمكّنها من التصدي للمعضلة الطائفية.
والبعض الآخر يحارب لنسف اتفاق الطائف »ديموقراطياً«، وعبر الفرز الطائفي بالانتخابات، محتفظاً بحق النقض للأقلية، لا سيما إذا تمكّن من إيصالها إلى الثلث المعطل.
في ظل أجواء كهذه كان من الطبيعي أن تختفي من المشهد الانتخابي صفحات مشرقة من تاريخ النضال الوطني والقومي للشمال بأنحائه كلها، بدءاً بعاصمته الفيحاء، طرابلس الشام، مروراً بكل قلاع مقاومة الطائفية والإقطاع والظلم الاجتماعي، من عكار إلى الكورة ومن بشري إلى البترون ومن زغرتا إلى المنية والضنية…
لكن الطرابلسيين سيظلون يعتزون بهذه المدينة المناضلة والصابرة على الضيم، وبأجدادهم الذين خرجوا إلى شوارعها بالغضب يريدون الثأر لشهيد العروبة في ليبيا عمر المختار، وكانوا في الشوارع في انتظار العائد من الحرب (ولو خاسرة) في فلسطين فوزي القاوقجي.
أما مع المد القومي فإن طرابلس قد لفت جمال عبد الناصر بقلبها وأعطت صوتها لخطابه الوحدوي، ومن داخل هذا الشعور »الصوفي« فتحت ذراعيها وصدرها للثورة الفلسطينية…
وأما في عصر سيادة المناخ الطائفي الذي أنتجته الحرب الأهلية فإن الشمال عموماً قد دفع ثمناً باهظاً، تستوي في ذلك عكار وزغرتا والكورة والبترون والضنية والمنية، وإن »قصرت كل مصر عن طرابلس« التي قدمت شهيد الوحدة الوطنية رشيد كرامي.
* * *
غداً، الأحد، سيقول الناخبون في الشمال كلمتهم.
والثقة كبيرة بأن تغلب المشاعر الوطنية على الحمى الطائفية في هذا الشمال المظلوم، وعنوان ظلمه يحمل اسم طرابلس.

Exit mobile version