طلال سلمان

انتخابات دولية من اجل سيادة وطنية

حتى من قبل أن تُصدر الحكومة قانوناً جديداً للانتخابات، يعيد تفصيل الدوائر الانتخابية حسب رغبات »الأقوى« في هذه اللحظة، ارتفعت أصوات المعارضات المختلفة بصيحات الحرب، مقتربة من نصوص »البلاغ الرقم واحد«: »لقد انتهى عصر الزور والتزوير، وجاءت ساعة الاستقلال والتحرير، والنصر لنا«!
ولأن المعارضات متعددة المنابت والمصادر والأهداف فإن أقصر طريق لتجميعها وتوحيد صفوفها يتمثل في رفع الشعار الأكثر تطرفاً: لنا السلطة، كل السلطة، فنحن الأكثرية! نحن الشعب!
تلاقى حكام الأمس مع معارضيهم، تجاوزوا خلافات كانت تبدو كأنها أعمق من أن تطويها قبلات مصالحة مكشوفة الأغراض، بتوقيتها على الأقل، جمعوا جبهاتهم في جبهة واحدة، أرجأوا الحديث عن المستقبل كما عن الماضي، حصروا همّهم في »اليوم«، و»أمر اليوم« هو: أن نفوز ونهزمهم في الانتخابات. نحن الديموقراطية والديموقراطيون وهم الطغاة المرتكبون والمزوّرون!
أعيد رفع شعارات كانت سنوات الحرب الأهلية قد طوتها، واسترجعت مطالب كان اتفاق الطائف قد جعلها من الذكريات..
أعيد الاعتبار إلى من وصفوا على امتداد خمس عشرة سنة وكأنهم أعداء السلم الأهلي، أعداء الوحدة الوطنية، أعداء الطائف..
انسحب بعض »الحلفاء التاريخيين« لسوريا من علاقاتهم المميزة معها، والتي وفرت لهم مجد السلطة وفرص الثروة والنفوذ، وانتقلوا أو أنهم همّوا بالانتقال إلى خانة المعارضين الآخذين على دمشق أنها أقطعت السلطة والثروة والنفوذ لمن والاها وأنها عاقبت معارضيهم بحرمانهم كل ذلك…
حمل بعض آخر من الذين وصلوا إلى السلطة عن طريق دمشق على »التدخل السوري« في الشؤون الداخلية اللبنانية وإفساد السياسة والإدارة، الاقتصاد والزراعة، التجارة والصناعة، القضاء والجامعة اللبنانية وصولاً إلى مصالح المياه والكهرباء والرصد الجوي… وكأنهم كانوا خارج البلاد خلال تلك الممارسات المغلوطة جميعاً.
اختلطت المآخذ الصحيحة بالتجني، واستخدم النقد الصحي للممارسات السورية ذريعة للانتقال من دمشق إلى نيويورك، عن طريق باريس أو واشنطن، للحصول على سلاح التدمير الشامل للمرحلة السابقة ممثلاً بقرار مجلس الأمن الرقم 1559.
… وأصيب أصدقاء سوريا وحلفاؤها الذين طالما كانوا مفوّهين وفصيحي العبارة بالصدمة، فأخذوا يرددون بعض كلامهم القديم الذي فقد سحره وانفض عنه جمهوره الافتراضي، الذي ثبت أن وعيه أرقى بكثير من أن تقنعه تلك الشعارات الملفقة التي لا يمكنها أن تغطي واقعاً مغلوطاً.
أما الجمهور الذي أخذته حرب الانتخابات على حين غرّة، وصعقه تبدل التحالفات وتبديل المواقع وانتقال الأصدقاء إلى خنادق الخصوم، واشتعال الحروب بين »رفاق السلاح« إلى ما قبل شهور قليلة، فقد وقف مذهولاً يحاول فهم ما يجري، وقد اختلط أمامه الصح بالغلط بحيث لا يكفي للتبرير أن يقال: إنها الانتخابات، وهي تبرّر كل شيء!
فهذا الجمهور بمشاعره الوطنية الطبيعية يصعب عليه أن يقبل منطق حرب التدخل الدولي، أو أن يسلّم بمبرراتها المعلنة، التي يعرف أنها خادعة ومزيّفة وغير صحيحة، وكأنها أقصر الطرق إلى الديموقراطية!
وهذا الجمهور مع تسليمه بأن »الحقبة السورية« قد حفلت بالكثير من وجوه الخطأ، فإنه لا يرى أن تصحيحها يمكن أن يأتي من باريس، أو من الفاتيكان، أو من واشنطن، فضلاً عن مجلس الأمن وقراره الخبيث الذي يؤسس لحرب أهلية يحترق في أتونها مع اللبنانيين السوريون والفلسطينيون، ومعهم الشعارات النبيلة: من المقاومة إلى التحرير..
ليست باريس، عند هذا الجمهور، بديلاً من دمشق… حتى لدى من يعتبر أن السياسة الفرنسية كانت، بمجملها، أقرب إلى موقع الصديق من تلك السياسة الأميركية الهمجية التي ترى في أي اعتراض على الخطأ أو على الظلم وفي أية مقاومة للاحتلال عنصرياً كان أم عسكرياً إرهاباً وليس إلا إرهاباً..
فالحساب مع سوريا »داخلي« بداية وانتهاء، فإن تدخل »الخارج« شعر اللبنانيون بالخطر على هويتهم الوطنية، وانتمائهم العربي، مع تسليمهم بحتمية الخلل الفاضح في العلاقات اللبنانية السورية، وضرورة معالجته جذرياً ومن »الداخل« لا من »الخارج«.
ومن المستحيل على اللبنانيين أن يقبلوا المنطق الذي يتعامل مع القرار 1559، وهو ذروة التدخل الأجنبي في شؤونهم الداخلية، وكأنه »مطلب وطني« يكاد يختزل الاستقلال والسيادة والكرامة وعنفوان الشعب العنيد..
إن جلباب الشرعية الدولية فضفاض، يتسع في هذه الحقبة لأغراض الهيمنة الأميركية، ورأس حربتها احتلال العراق، وأغراض الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في طوره الراهن وهو يكاد يكمل استنبات مستعمراته الاستيطانية في معظم أرضها ويلتهم ما تبقى منها بجدار الفصل العنصري الذي يجعل الحياة فيها مستحيلة على شعبها… ويتسع أيضاً لشعارات خادعة مثل حماية الدستور والديموقراطية في لبنان.
لكأن الانتخابات النيابية في لبنان، بقانونها ومرشحيها، موضوع حرب دولية!
فالبعض يستعيد الآن ذكريات الانتخابات النيابية الشهيرة في العام 1968 التي وظّفت فيها المقدسات لإتمام التحوّل الذي مهّد للحرب الأهلية بعد سنوات قليلة من تأمين الفوز بالشعار الطائفي لجماعة الحلف الثلاثي..
وبعض آخر يستعيد شعارات »حرب التحرير« التي كان بين وسائلها العملية »قصف دمشق«، وإن أخطأت القذائف الأولى طريقها فسقطت في محلة الأونيسكو في بيروت، موقعة عشرات الضحايا من اللبنانيين، أما قذائفها السياسية فطالت بكركي وما تمثله، في جملة ما طالته من أهداف استراتيجية، مما فرض التسوية في الطائف، وبعدها »التفويض السوري« الذي أنهى »التمرّد« الذي يذهب لمفاوضته الآن كل الذين تواطأوا على خلعه..
لقد دار الزمن بلبنان دورة كاملة، فإذا ما كان مقبولاً بات مرفوضاً، وما كان في خانة الصح قد بات غلطاً مطلقاً، وأعيد الاعتبار إلى ما كان يعتبر »خطايا مميتة« وتُلي »فعل الندامة« مرات ومرات لتمرير »مصالحات تاريخية« بين »الأخوة« الذين جعلهم »التدخل الشقيق« أعداء برغم أنوفهم، وقُسم الجبل الواحد جبلين، مما أضعف المركز وعزز موقع الملحقات فكادت تصبح رأس السلطة ومصدر القرار.
إنها حرب الانتخابات… ومن أجل النصر في الحرب يجوز خرق المحرمات، واللجوء إلى كل الأسلحة، وبعد النصر الذي سيستولد »لبنان الجديد« يمكن إعادة بناء ما تهدم على قاعدة الديموقراطية الصلبة.
إنها حرب الانتخابات، وهي حرب دولية بالتأكيد، فقاعدتها القرار 1559 وشعارها الأثير إجلاء السوريين، وهدفها استعادة السلطة أو إعادتها لمن هو جدير بحكم وطن الأرز في عصر اختراق الفضاء وصولاً إلى المريخ!
والانتخابات، في أي بلد عربي، هي شأن دولي من فلسطين إلى العراق مروراً بلبنان، والبقية تأتي.
ملاحظة: »الدولي« في هذا العصر، هو صفة دلع للهيمنة الأميركية.

Exit mobile version