طلال سلمان

انتخابات بقانون ستين بين حوار وطني مناورات اسرائيلية

سوف يخيّم طيف الرئيس الشهيد رشيد كرامي على «طاولة الحوار الوطني» التي تنعقد بضيافة الرئيس ميشال سليمان، خصوصاً أن المتهم والمُحاكَم والمحكوم بجريمة اغتياله يتخذ موقعه إليها باعتباره من صنّاع السلم الأهلي… في غدنا!
ولسوف تخيّم إلى جانبه ذكريات الاجتياح الإسرائيلي حتى بيروت (4 حزيران 1982) وهو قد بلغها لكنها احترقت ولم ترفع له الأعلام البيضاء.
ولعل مما يرضي الغرور اللبناني المعتق أن يربط كل الوقائع والأحداث التي شاءت المصادفات (؟!) أن تتزامن مع انتخابات قانون الستين المقرر إجراؤها يوم الأحد المقبل الفاصل بين «لبنانين» يكاد ثانيهما أن يكون نقيض الأول، إذا ما صدقنا اللافتات واللوحات بألوان قوس قزح التي تزيد من ضياع الناخبين الهاربين من الفتنة بالأمر إلى الفتنة… بالديموقراطية!
ويمكن لهذا الغرور أن يفترض أن إسرائيل، التي لم يعد من السهل وصفها بالعدو، ما كانت لتجري أضخم مناورات في تاريخها، شاملة عسكرها ومجتمعها «المدني» وكله معسكر، لولا الانتخابات بقانون الستين في لبنان!
ويمكن لهذا الغرور، أيضاً، أن يدحض التحليل القائل بأن هذه المناورات إنما تستهدف إعلان إسرائيل أنها قد «حرّرت نفسها» نهائياً من الهاجس الفلسطيني، فلم تعد تشغل ذاتها بالمخاطر التي قد تنجم عن عدم تسليمها بدولة لشعب فلسطين على بعض البعض من أرضه، مجردة من السلاح، مفقرة حتى التسوّل، تعيش على الصدقات والحسنات وتبرعات بعض المعذبة ضمائرهم، و«سلطتها» ولاّدة انقسامات تتزايد عمقاً كل يوم وأسباباً للاقتتال يستولدها انسداد الأفق وانشقاقات القيادة… وهي انشقاقات تزيد من عجزها عن القرار الصح، لكنها تستدر لرئيسها مزيداً من الاحتضان العربي والدولي إلى حد فتح أبواب البيت الأبيض أمامه للقاء أهم ما فيه الصورة.
يمكن للغرور اللبناني أن يفترض، بتداعي الأفكار والخواطر، أن الرئيس الأميركي ما كان ليجيء إلى منطقتنا هذه الممزقة بخلافات قادتها بحيث إنها خسرت مكانتها في العالم ودورها وحتى جدارتها بأن تكون صاحبة القرار في شؤونها لولا… الانتخابات بقانون الستين الذي سيحسم الصراع في لبنان وعليه، وإلى جهنم ذكريات الأول من حزيران (اغتيال كرامي) وقبله الرابع من حزيران (1982) (الاجتياح الإسرائيلي) وقبلهما هزيمة الخامس من حزيران (1967) التي تفسر كل ما عانى منه لبنان وما يعاني منه العرب جميعاً في كل أرضهم الفسيحة!
أبسط الشواهد على صحة هذا الاستنتاج أن الرئيس الأميركي الذي لم يحالفه التوفيق في اختيار الموعد المناسب لجولته العربية، سيبدأ بالمملكة العربية السعودية ـ ربما لتوكيد تعلقه بذلك الجذر الإسلامي الغامض من جذوره الأفريقية المعززة بالطفولة الاندونيسية ـ ثم يتبعها بإطلالة ثقافية من جامعة القاهرة يقدم فيها نظرته إلى مستقبل الإسلام في عالم الغد… وواضح أي إسلام يقصده أوباما الذي «يمانع»، حتى هذه اللحظة في شن الحرب على إيران، لكن إسرائيل سوف تواصل استدراجه لعلها تورّطه في مثل هذه الحرب، في نهاية الأمر.
أليس المناخ الذي سوف تشيعه هاتان الزيارتان للعاصمتين المندفعتين في خصومة إيران حتى حافة الحرب، مفيداً لجماعة 14 آذار الذين يتصرفون كأنهم يخوضون المعركة الفاصلة، فإن هم كسبوا الانتخابات بقانون الستين سقطت الثورة الإسلامية في إيران، وإن هم هُزموا فيها وصل «الفرس» إلى «المحروسة» عاصمة المعز ـ القاهرة ـ مكتسحين في طريقهم العراق والأردن ولبنان، بتواطؤ مكشوف مع سوريا!
هل من الضروري التذكير بخطورة الانتخابات بقانون الستين للإدارة الأميركية، وهي التي استقدمت أكبر مسؤولين أميركيين بعد الرئيس، فجالا وعقدا اللقاءات ـ رسمية و«عائلية» ـ وسألا وناقشا وطمأنا حلفاء واشنطن إلى أنها لن تتخلى عنهم ولن تخذلهم مهما كلف الأمر!
… وإن كلاً من هذين المسؤولين جاء لبنان بعدما عاين على الأرض تجربتين ناجحتين جداً للديموقراطية الأميركية: أولاهما في العراق الممزقة وحدة شعبه المهدد كيانه تحت الاحتلال الأميركي بالتمزق، والثانية في يوغوسلافيا السابقة التي استقرت في كتب التاريخ مغطاة بأكوام من جثث الحروب الأهلية التي مزقتها دولاً مقتتلة… وبينها دويلة للأقلية الإسلامية بحراسة قوات الحلف الأطلسي بقيادته الأميركية!
[ [ [
أي خدمة يمكن أن تؤديها طاولة الحوار، الرئاسية الآن، للتخفيف من ضراوة الحرب بانتخابات قانون الستين التي شطرت المسيحيين وشطرت المسلمين، وفتحت أبواب جهنم أمام المجلس النيابي العتيد، بحيث إنه قد يكون فيه ومنه منطلق الحرب الأهلية الجديدة، مصفحة هذه المرة باتفاق الدوحة ومعه اتفاق الطائف ودستوره الذي اكتشف المكتشفون ـ بعد عشرين سنة ـ أنه لا يبني دولة (مستقلة؟!) لشعب منقسم على ذاته، مختلف على ماضيه وحاضره ومستقبله، بما يمكن لجميع الدول أن تجد فيه «الممر والمستقر» لخططها وأهدافها… مع الإشارة إلى أن قيادات بعض أطرافه تتمنى أن تشن إسرائيل حربها الأخيرة فتنهي وجود أي قائل بالتحرير وموجباته، في لبنان كما في فلسطين المهددة بالاندثار، كما في العراق تحت الاحتلال الأميركي..
فالحوار يكون بين متفقين على جوهر الموضوع مختلفين على التفاصيل..
أما في بلد صغير يُراد له أن يكون تفاصيل مرصوفة إلى جانب أو فوق أو تحت تفاصيل، فكيف يمكن أن ينجح الحوار بين من يريد توظيف المناورات الإسرائيلية والزيارات الأميركية غير المبررة، والخلافات العربية المتوالدة من ذاتها، لخدمة أغراضه الانتخابية، ولو على حساب سلامة البلاد وشعبها، وبين من يطالب «خصومه» بالاتفاق، داخلياً، على الحد الأدنى، والابتعاد عن «لعبة الأمم» التي لا يقدر عليها، ولا يمكن أن يكون فيها أكثر من «حقل تجارب» يخسر فيها وحدته ومستقبله.
مع ذلك فلا بد من الحوار، برغم أن كثيرين حاولوا عبر الضغط لإقرار الانتخابات بقانون الستين، ثم عبر الحروب المفتوحة التي شنوها خلالها ضد كل ما يوحّد ويجمع، نسف الطاولة والحوار والمضيف..
لا بد من الحوار، الذي نتمنى أن تكون جلسته الأخيرة المقررة اليوم باباً مفتوحاً على الغد، وليس بوابة إلى جهنم الاغتيالات التي قد تمهد لاجتياح إسرائيلي جديد أو للحرب الأهلية التي تطالعنا صورها الموعودة أنى ذهبنا وحيثما التفتنا ونحن في الطريق إلى انتخابات… نجوم الظهر الذين سيشهد على اقتحامهم الندوة النيابية العالم كله، وبكلفة لا تكاد تذكر قياساً إلى كلفة الحملات الانتخابية… وكلها بالدولار، الذي لا تهزه الكوارث أو الزلازل أو الحروب الأهلية في بلاد الغير!

Exit mobile version