طلال سلمان

انا اكذب إذا، انا موجود

هنا لبنان.

الكذب يغلبنا. إنه الاكثرية. مع ذلك فالانحياز إلى الصدق مؤلم وأخلاقي. اذا كان من الصعب تغيير الافعال والأقوال، فمن الافضل الاقامة في الفسحة البيضاء، وليكن كذب اللبنانيين كسيل الماء على الرخام.

هنا لبنان.

أشهر ما فيه الفساد. هذا خطأ فادح. الشهرة معقودة على الكذب، واكذب ما عند اللبنانيين الأقحاح، حديثهم الدائم عن محاربة الفساد. لا. لنعد ترتيب الأمور: الأولوية للكذب ومن ثم يأتي الفساد والهدر واغتصاب الحقوق.

انهم يكذبون والاتباع يصدقون اقوالاً من مثل: بناء الدولة، احترام الدستور، تطبيق القوانين، الكهرباء لأربع وعشرين ساعة، لبنان القوي، الانتخابات (وما أدراك ما الانتخابات!) الأمن الحاسم، اصلاح القضاء، وقف العجز، حقوق الموظفين، حقوق المرأة (من يجرؤ على المحاكم الروحية والشرعية؟ يا للظلم!) رفع مستوى التعليم، معالجة ازمة النفايات، حل أزمة الاختناق المروري (السير) وقف تسطيح الجبال بالكسارات، منع الاعتداء على الاملاك الخاصة، معاقبة التعدي على الأملاك العمومية، خفض سعر الدواء، وقف الحماية لشركات الادوية، دعم المستشفيات الحكومية (تعامل كالأيتام) تنظيف الادارة، بناء المؤسسات (على شاكلة رواتب أوجيرو مثلا) وعلى طريق اغداق الرواتب لموظفين محظوظين (في النفط مثلا)..

انهم يكذبون فقط. الكذب ملح السياسة. الكذب عقيدة الاتباع. يكاد يكون أكثر الناس في لبنان على دين كذابيهم الكبار.

قد يكون ذلك ليس جديداً. السياسة والكذب صديقان حميمان. توأمان سياميان. لكن أن يكون الشعب مصدِّقا، فتلك معجزة اجترحها اللبنانيون، بجدارة التقليد، وحفاوة تقديس الاسماء الأولى القيادية، في لوائح الطوائف المعتمدة رسمياً في لبنان,

إذا فقد اللبناني كذبه، ضاع. لا يعرف ماذا يقول وماذا يفعل وكيف يتصرف. الكذب هوايته وطريقة عيش وتفكير. ولو أن السياسة في لبنان “عقائدية” لكان التفسير مختلفاً. العقائد افكار، ولو تسلطت عليها قيادات حزبية، تقنع اتباعها بالتفكير قليلاً، وبالأمر كثيراً. والعقائدية في لبنان، إلى اندثار، لكثرة ما اساءت إلى نفسها.

ماذا عن الاخلاق؟ كيف تفسر عملية بيع الضمير؟

في بلاد كلبنان، الأخلاق تابع امين للسياسة. اللبناني مرتاح الضمير في مكان اقامته الطائفي. هو في مقام “الحقيقة” التي تبنى على الولاءات السياسية. الصح، هو حيث يكون. الغلط، حيث يقوم الخصوم او الاعداء. نظام القيم ملحق بنظام المنافع. الزعماء ليسوا بالضرورة اذكياء. هم في مرتبة التطابق مع المصالح. واللبناني، مرتاح الضمير جداً. حيث تكون مصلحته يقيم ضميره مرتاحاً. تطمئن اخلاقه إلى سلامة موقفه.

مثل هذا، يفسر كيف تذهب النعاج اللبنانية إلى صناديق الاقتراع، وكيف تزحف الدهماء، لتبرير التحالفات الهجينة، والانقلابات المفاجئة، وتشكيل اللوائح، ثم تشكيل الحكومات ثم تعطيل المؤسسات…

مثل هذا، يفسر تطابق القاعدة الشعبية مع القيادة الطائفية. لا ضمير، لا أخلاق، لا تقاليد حية. الانحياز الطائفي يصل احياناً إلى تبرير الخيانات الصغرى، البينية، والى تبرير الخيانات الكبرى، الما فوق لبنانية. لذلك، العديد من المرتكبين، وهم بعشرات الآلاف، يسرحون في الشوارع بحرية، ويرتكبون الكبائر امام العيان.

لا بد من رثاء الضمير وإقامة احتفالات الوداع للأخلاق، وعدم توقع الصدق والوفاء و…محبة لبنان.

أما الكافرون بالسياسة والسياسيين في لبنان، فليس امامهم سوى التمسك بالصدق، وعليهم أن يفضلوا الواقع الاشد سواداً، على الكذب الاشد بياضاً. (وعذراً للغة العنصرية بمفرداتها ومعانيها المزمنة).

ما قبل المدنية، كانت البشرية في حالة توحش. ماذا يقال عن الانسان في لبنان؟ على الأقل، انه نصف متوحش. انه ينسى ما يرتكب ولا يبكته ضمير. ولا يشعر بالقوة، الا عندما يصدق كذبه، حشد من الناس والدهماء.

انه أمر مؤلم حقاً.

 

 

Exit mobile version