طلال سلمان

»ام دنيا«والقمة ناجحة

أهم ما في بيان القمة العربية، في القاهرة، في اليوم الأول من صيف 1996 أنه يستعيد ويعيد إلى التداول (ودائرة الفعل؟!) لغة منسية ومهجورة منذ جيلين تقريبù.
إنها عودة للقاهرة ودورها العربي المفتقد والذي لا تعوّضه أية عاصمة أخرى، وهذا ما يعطي للغة المستعادة مضمونها الأصلي والذي كان معظم الحكام العرب قد أسقطوه من قاموسهم بتعابيره كافة ومنها: آمال الأمة العربية وتطلعاتها، المصير العربي الواحد، روابط الأخوة، استنهاض الأمة ولمّ شملها… والأخطر: استعادة حقوقها المغتصبة!
منذ زمن بعيد كان بعض هؤلاء قد توهم أن القاهرة قد خرجت ولن تعود، وأنها قد فقدت دورها ولن تستعيده، وأنه يستطيع أن »يحرّر« نفسه من رقابتها منتقلاً إلى تبرير انحرافه بأنه إنما يتمثل بها ويتبع نهجها وليس لها أن تحاسبه طالما أنها سبقت إلى الصلح المنفرد والتطبيع والعلاقات المفتوحة مع عدو الزمن القديم: إسرائيل.
ها هي القاهرة الآن تؤكد أنها باقية على عروبتها، وأنها لم تخرج من جلدها، ولم تتخل عن دورها، وأن »الصلح الاضطراري« يأتي في سياق الصراع المفتوح وليس خارجه أو على حسابه.
ربما لهذا لم يجد الرئيس السوري حافظ الأسد ما يعبّر به عن ارتياحه لنتائج القمة، بعد الاشادة بدور الرئيس المصري حسني مبارك شخصيù، أفضل من القول: ان القاهرة هي فعلاً، كما يقول عنها أهلها، »أم الدنيا«… ولست أقولها مجاملة، بل تلك هي حقيقة مشاعري في لحظة الانجاز هذه. لقد وفرت لنا »أم الدنيا« الفرصة والمناخ والروح الطيبة التي كانت ضرورية جدù لهذا النجاح الكبير.
وإذا كان صحيحù القول إن كل مشارك في هذه القمة قد خرج منها رابحù، بقدر ما يمكنه الربح، فإن القاهرة هي الرابح الأعظم، ومعها رئيسها الصبور والمتسامح مثلها حسني مبارك.
وبرغم الحرص المصري الرسمي الاستثنائي على تحاشي الكلام المباشر حول »الهدف المركزي للقمة«، فلا جدال في ان الخاسر الاكبر هو إسرائيل، سواء بطموحاتها البيريزية غير المشروعة، وعنوانها »الشرق الأوسط الجديد«، اي »اسرائيل العظمى«، ام باستعراض القوة المستفز الذي يقدمه بنيامين نتنياهو كوسيلة لتحقيق »اسرائيل الكبرى«،
ان فلسطين، قضية وشعبا له حقوقه في ارضه، وابسطها الدولة وعاصمتها القدس، هي الحاضر الاكبر في بيان القمة، واستحضار فلسطين يغيّب اسرائيل او يحاصرها ويحجمها في حدود ما يمكن قبوله اضطرارا، بما في ذلك كل ما يتصل بالتطبيع، بعدما وضعت القمة خاتمة منطقية لسياسة »الهرولة« التي كاد ينكرها من كان يطمح الى الفوز بسباقها المحموم!
والقاهرة »الفلسطينية« اكثر من عرفات نفسه، هي التي استطاعت اعادة فتح ابواب دمشق امام »القضية« المهددة الآن »بالخيار الاردني« اكثر مما هي مهددة »بالتطرف الاسرائيلي« الذي لم يبدأ مع نتنياهو، والذي كانت »المصالحة« بين الاسد وبين الملك حسين ضرورية للجمه… ولو الى حين!
ولعله كان ضروريا ان يتم »عزل« الاشكالات الثنائية ليتركز الكلام والجهد على الموضوع الاصلي، اي الدور الاردني الراهن، الذي يشكل الحلقة المركزية في بعث حلف بغداد القديم، وقد حلت اسرائيل محل بريطانيا في حين بقيت تركيا تحت المظلة الاميركية في موقعها ذاته وحل الملك محل نوري السعيد، وبقصد محاصرة سوريا لخطف فلسطين واعادة »ضمها« الى المملكة وبالشراكة مع اسرائيل، هذه المرة، بحيث تكون الارض لها والرعية لسيدنا الهاشمي.
لقد أحبط الهجوم الملكي على القمة، مع ان احباطه كلف شيئا من التساهل مع الخليجيين، المعبأين بالخوف »الموثق« ضد ايران..
لكن ذلك كان ضروريا لطمأنة تلك الاقطار الصغيرة التي نجح الملك، عبر حملته المركزة، في تغييب اكثرية حكامها، مع انها عمليا صاحبة مصلحة مباشرة في حضور القمة، اقله للاستقواء بها في وجه ما تصوره »تدخلا ايرانيا« مباشرا في شؤونها الداخلية.
إلى جانب إيران، تاجرت السياسة الملكية بشبح صدام حسين، مصورة للخليجيين أن مؤسسة القمة، إن هي بعثت، فلسوف تعيد بالضرورة صدام حسين إلى حلبة العمل العربي المشترك، وأنه إن أمكن تغييبه هذه المرة فلا شيء يضمن عدم دعوته إلى القمة التالية،
ربما لهذا وقف الخليجيون، ومعهم السعودية، ضد الآلية المقترحة لما بعد القمة، أي لما يحوّل القمة إلى »مرجعية« لها أجهزتها ولها حقها المشروع في التدخل لحسم الخلافات وفض النزاعات في ما بين العرب أنفسهم.
لكن بيان القمة، وبرغم كل الضغوط، لم يقفل الباب أمام عودة العراق إلى الصف العربي، وإن بشروط، ولم تنفع بكائيات الشيخ سعد السالم الصباح واشتراطه »إعلان التوبة« علنù، في شطب العراق وفرض الحظر الأبدي على مشاركته وقيامه بدوره العربي الطبيعي مستقبلاً.
ولعل هذه النقطة بالذات هي التي جعلت دمشق تتحفظ في دعوتها إلى استضافة القمة التالية، تاركة الأمر للتطورات ولسيادة الاقتناع بأن إهدار طاقة مؤثرة كالعراق لا يفيد إلا خصوم العرب، وسيكون الخليجيون أنفسهم بين المتضررين من استمرار تغييبه، بغض النظر عن شخص حاكمه.
في عداد الرابحين أيضù تأتي ليبيا في مرتبة متقدمة، فلقد تضمن بيان القمة موقفù قاطعù في تأييدها وتبني طرحها لطي ملف طائرة لوكربي، كتمهيد للمطالبة برفع المقاطعة عنها، مع تلويح بإمكان أن يخرق العرب هذه المقاطعة الظالمة لو أنها استمرت نتيجة للتعنت الأميركي.
ولا بد هنا من ملاحظة أن عرب شمالي أفريقيا قد حضروا جميعù، وعلى أعلى مستوى، وشاركوا بجدية في أعمال القمة، بعكس الخليجيين،
حتى الحسن الثاني كان حريصù على تبرير غيابه بوضعه الصحي، مع الاعتذار المتكرر، والتوكيد أن رئيس حكومته (الفيلالي) يحمل تفويضù كاملاً منه بتأييد كل ما يطلبه الرئيس مبارك وما يتفق عليه أهل القمة مجتمعين.
على هذا يمكن القول ببساطة ان القمة قد نجحت فعلا.
لقد كان انعقادها، مجرد انعقادها، مستبعدا او صعب المنال، فانعقدت، وفي القاهرة بالذات، ونجحت.
واذا كانت المصالحات الثنائية قد أسهمت في توفير شروط النجاح، فإن الدور المميز الذي لعبته القاهرة وقيادتها ومناخها النفسي شكل القاعدة لمثل هذا النجاح الذي كان متعذرا على غير القاهرة.
ولا شك ان اطراف قمة دمشق الثلاثية، مصر والسعودية وسوريا، شركاء في هذا النجاح، وخصوصا ان بيان القمة قد تبنى جوهر موقفهم المشترك والمعلن في دمشق..
ولعل صمت الرئيس الاسد او امتناعه عن الكلام المستفيض كان تعبيرا عن الرضا، وعن ترك دائرة الضوء للرئيس المصري، مكتفيا بكون سوريا قد حققت الاقصى في وجه الحملة الاميركية الضاغطة دبلوماسيا، بالتشهير العلني، وعسكريا، بالطائرات الاميركية والمناورات في السماء الاردنية، وبالحلف المعلن التركي الاسرائيلي والاردني.
ان الرسالة العربية واضحة تماما، وهي موجهة اساسا الى البيت الابيض في واشنطن، وعبره الى القادم الى الحكم حديثا في تل ابيب.
وهي ليست اعلانا للحرب، ولكنها تضع خطا احمر لسياسة التنازل الى حد التهالك والهرولة الى حد التسليم بالشروط الاسرائيلية جميعا،
بعد القمة لن يتم فتح مكاتب الاتصال، عشوائيا، وبلا ثمن، في هذه العاصمة العربية او تلك، ولن يتم الصلح قبل التفاوض، ولن تهدر دماء المقاومين خوفا من تهمة الارهاب.
لقد وقف الموقف العربي على ارض، ولم يعد معلقا بالمزاج في الهواء.
ولبنان الذي نجح في تجسيد الضحية كان بين المستفيدين لان مثل هذا المناخ الصحي الذي اشاعته القمة يعزز موقعه التفاوضي بقدر ما يفيده مباشرة في سعيه لاعادة اعمار ما تهدم فيه، ولو في المدى المتوسط،
ان التماسك في الموقف العربي، ولو على قاعدة الحد الادنى، يعطي لبنان قوة هو بأمس الحاجة اليها..
وغدا نستكمل الحديث عن النتائج السياسية للقمة على الاطراف »الغريبة« التي حاولت تخريبها.

Exit mobile version