طلال سلمان

امين عام لتحرير فلسطين

ليس دقيقا القول ان الدكتور جورج حبش قد استقال، او »استقيل« من موقعه الثابت على رأس »الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين«، منذ تأسيسها كامتداد لحركة القوميين العرب، ثم كتطوير للعقيدة والاسلوب والشعار والنهج.
الحقيقة ان »الحكيم« قد انتبه متأخرا، ولاسباب عاطفية على الارجح، الى انه لم يعد لجبهته الاصلية، باسمها الاصلي وبمهمتها الاصلية وبشعاراتها الاصلية وجود فعلي…
الحقيقة ان »الحكيم« قد اعلن امس، وبعد تردد طال اكثر مما ينبغي، »استقالة« الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من المهمة النبيلة التي انتدبت نفسها لها على امتداد خمس وثلاثين سنة ونيف، تلك المهمة التي تليق بتاريخها وتاريخه الشخصي فيها ومعها.
الحقيقة ان »الحكيم« قد استقال من »المنصب« الذي كاد يصبح معاكسا او منفصما عن »المهمة«، ليبقى »امينا عاما« على ذكريات ماض لن يعود، فكان منطقيا ان يعلن هذه الحقيقة المرة بحزن عميق يليق بسقوط مرحلة كاملة من مراحل النضال القومي (وقد صار في ما بعد امميا) الذي لم يحقق اهدافه وقصر عن اداء المهام الجليلة التي تصدى لانجازها.
الحقيقة ان »الحكيم« قد »استقال« حتى لا يتحمل المسؤولية عن تحول »الجبهة« من طليعة نضالية تتصدى لتحرير فلسطين، الى »فصيل« سياسي »خرج« من هدف »التحرير« لكي »يدخل« مجددا حومة الصراع على »السلطة« وكأنها »البديل« من فلسطين، وان افترض الفصيل او اقنع نفسه بأنها الطريق الى تلك الارض المقدسة التي استحقت ما بذل وما يبذل فداءها من تضحيات تجاوزت الارواح والدماء ومصائر الافراد والجماعات الى مصائر الاوطان والشعوب المحيطة بفلسطين والفلسطينيين.
ابن اللد لم يعد الى اللد. هذه هي الخلاصة.
لقد اعطى عمره للقضية، فلم ينجح. حاول ممتطيا صهوة العاطفة وروح الثأر. وحاول معتمدا طريق التنظيم الحديدي. حاول بالعمل السري، ثم بالحركة السياسية ذات الافق القومي المفتوح، وان ظلت بفكرها اقرب الى التزمت التصاقا بحلم الوحدة العربية وتجديد الدولة الامة. حاول بالكفاح المسلح. حاول بالشعار القومي وقد تماهى مع صورة البطل جمال عبد الناصر. ثم بالشعار الاممي وقد رأى فيه المخرج السحري من ليل الهزيمة والتعصب القومي الذي كاد في بعض اللحظات يكتسب ملامح عنصرية، فكان انفجاره بالفكر الماركسي عظيما.
لا اللد عادت اليه، ولا هو عاد اليها.
لا العودة الى فلسطين ممكنة، طالما ان فلسطين ما زالت في الحلم، لم تهبط الى ارضها، ولا البقاء خارجها مع رفع شعار التحرير ممكن، وخصوصا ان العديد من عواصم الشعار قد اسقطته او اخفته او استبدلته بسلام المناصب والمشاركة في المنافع في ظل خيرات العولمة اللاغية للحدود والهوية والقضية.
اللد ابعد اليوم مما كانت على امتداد تاريخه، ولكنه لن يخذلها بالتخلي عنها، ولن يخونها بالنسيان، ولن يكابر فيدعي انه بقادر بعد على الكفاح من اجل تحريرها، ولا هو سيتنكر لتاريخه ودماء »الرفاق« الذين غابوا وما فرطوا، فيدعي مثل غيره من زملاء الامس ان »السلطة« هي البديل من التحرير او الطريق اليه.
لقد فقدت »الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين« اسمها، ومن ثم مهمتها، فلماذا البقاء فيها؟ لقد باتت تنظيما مختلفا عما اراده وعمل له طوال عمره، ولن يستطيع تجديدها، ولا هو يقبل بأن يظل أسير المفارقة الموجعة: يهجره الرفاق ويهجرونها التحاقا بمنهج طالما قاتلت وقاتل ضده، بذريعة الواقعية او بدافع من اليأس، او بوهم تغيير الاسلوب واعتماد النضال المرحلي ومن الداخل، بدلا من الموت في المنفى في ظل التخلي العربي وسقوط النصير الاممي وعقيدته التي تبدت ذات يوم وكأنها الطريق الاقصر الى التحرير.
تأخر »الحكيم« في اتخاذ القرار؟!
لكنه ظل يحاول حتى اللحظة الاخيرة، حتى اليأس الاخير، حتى انطفاء الامل الاخير… وكان لا بد أن يحسم الأمر.
لا بد ان يخرج ومعه حلم العودة الى اللد، تاركا للرفاق ان يقرروا مصير »جبهة« تبدلت وظيفتها بحيث بات وجوده فيها تعذيبا يوميا للذات وللآخرين من الأحبة ورفاق العمر.
لقد حاول كثيرا ولم ينجح. من حقهم ان يقولوا له اليوم: دعنا نحاول. لا ضرر ولا ضرار. لا خيانة ولا تفريط. انما اختراق في الاجتهاد. انما هي النهاية النهائية لمرحلة عظيمة. لم يعد ممكنا تمديدها لا بالحلم ولا بالعمل ولا بالوهم. فليعترف الفارس الذي امضى عمره في الميدان، وليطو اعلامه، وليكمل طريقه بأسلوب آخر وبوسائل اخرى يقدر عليها ولا تضعه في مواجهة ما لا راد له من التحولات، وما لا قبل له بمواجهته من التحديات (فلسطينيا وعربيا ودوليا) ولا تبتر العلاقة مع رفاق السلاح ولا تهتك حرمة ذكرياته النضالية فتذروها للريح.
لقد حانت ساعة الانصراف.
ليخرج الفارس المثخن بجراحه وآلام التعثر والعجز عن حمل الحلم، من ساحة العمل اليومي، ولينصرف الى عمل تأسيسي جديد لمرحلة جديدة، لعله يكشف لجيل آت الطريق الى اللد في فلسطين… ولو بعد حين!
سلاما أيها المناضل الذي لم يتخلّ عن رايته ولا عن أحلامه برغم الوهن الذي أصاب جسده وبرغم الضعف الذي أعجز يديه.
لكنه زمن آخر… زمن لعله يقع خارج زماننا.
يكفيك شرف المحاولة ايها »الحكيم«، »الرفيق«، »الأمين العام«… لتحرير فلسطين!

Exit mobile version