طلال سلمان

اميل لحود ثاني منتصر على عالم

قُضِيَ الأمر، إذاً.. وها نحن قد انتصرنا على العالم أجمع، ممثلاً بمجلس الأمن الدولي، فأجبرناه على التراجع من »القرار« إلى »البيان الرئاسي«، ومن التسمية إلى إغفال أسماء المتهمين بالعصيان، لبنانيين وسوريين، ومن تقارير المتابعة الشهرية لكل ما يجري على الأرض أو يدور في الرؤوس، إلى تقرير وصفي يصدر مرة كل ستة شهور، يخلق الله خلالها ما لا تعلمون!
قُضِيَ الأمر، إذاً.. ويمكن للرئيس إميل لحود، وقد اجتاز بنجاح الامتحان الخَطِر، أن يتصرف وهو المنتصر على العالم وكأن »التمديد« هو »عهد جديد« يعوّض به أو يستدرك ما لم يستطع، أو ما مُنع من تحقيقه في »العهد الأول«.
ثم إنه، في انتصاره المؤزر الجديد، بلا شريك: فهو مَن واجه فرنسا، برئيسها الذي لا يطيقه (أوليس هو صديق عدوه؟!) ودبلوماسييها، لا سيما منهم هذا السفير »المدسوس« عليه هنا في بيروت… ثم إنه قد واجه مَن هو أقوى وأشرس، الإدارة الأميركية التي هزمت كل من وقف في وجهها إلاه، وبوسعه القول إنه قد عرف كيف يجعلها تتراجع أمامه وتسلِّم بشرعيته.
ما حاجة المنتصر على إمبراطور الكون إلى »شركاء الضرورة« المناكفين، المستكبرين عليه بعلاقاتهم في الخارج وبشعبيتهم في الداخل، وبموقعهم المميّز لدى »الأخ الأكبر«، السوري، من أمثال رفيق الحريري ووليد جنبلاط والآخرين؟!
إنه بحاجة، فقط، لأن ينسى السنوات الست، بكل ما حفلت به من وجوه القصور والإخفاقات العديدة وثقيلة الوطأة التي تسبّب بها الحلفاء الأعداء، سوريين ولبنانيين، مفترضاً أن ساعته قد حانت لتحقيق طموحاته المسجلة في خطاب القسم الشهير، بمعزل عن أن ذلك الخطاب الذي يشكل خروجاً على الدستور والأصول واتفاق الطائف، قد تحول إلى مضرب المثل في افتراق الفعل عن القول، وفي الهرب من الواقع إلى الأحلام النهارية، وفي تجاوز الحقائق السياسية بتجاهلها بافتراض أن ذلك كله من اختصاص »الأخ الأكبر« وهو كفيل بذلك ومؤهل له.
قُضِيَ الأمر، إذاً.. فإن لم يخرج الحريري بإرادته أخرجناه، وإن أظهر البطريرك الماروني اعتراضاً استرضيناه شكلاً ومضينا في خطتنا »للإنقاذ«، وإن انتقدنا جنبلاط قاتلناه، وإن خاصمتنا »قرنة شهوان« أفدنا من خصومتها تزكية لخطنا الوطني ونهجنا القومي، وإن استكبر أو استنكف بعض الأصدقاء المقربين من »الأخ الأكبر« أخرجناهم من جنة الحكم. لقد انتهى عهد التوازنات ومراعاة الخواطر والحساسيات وآن أن يتم الفرز: مَن جاء إلينا فأهلاً به ومن افترق عنا فما أسهل من إدانته بجرم التعامل مع الخارج، بدليل أنه قد رحّب بالقرار 1559، وهو قرار بحرب استعمارية علينا، وأنه قد تهيّب تقرير أنان، وأنان مجرد موظف عند أسياده الأميركان!
* * *
قبل ست سنوات إلا قليلاً وصل العماد إميل لحود إلى سدة الرئاسة بما يشبه الإجماع الداخلي، مظللاً بتزكية سورية صريحة وقبول عربي عام وعدم اعتراض دولي، وأعطته الأكثرية النيابية المطلقة أصواتها متجاهلة ما تضمنه »خطاب القسم« من إهانات وتجريح (متلفز) بالطبقة السياسية جميعاً (وهي منها في
الطليعة) ومن خروج على الدستور واتفاق الطائف.
وربما بسبب من تهافت هذه الأكثرية وامتناعها حتى عن الدفاع عن نفسها، وجّه إليها العماد الذي صار رئيساً الضربة الأولى، والتي كانت قاضية، فخالف إرادتها وأقال مَن سمّته أكثريتها مرشحاً لرئاسة الحكومة: رفيق الحريري.
وكانت الانتخابات النيابية »ساعة الحقيقة« التي اتسمت بطابع الثأر من هذا الرئيس الذي بدأ عهده بإشهار الحرب على أبرز »رفاق السلاح« في الخط الوطني والقومي، القائلين بوحدة »المسار والمصير«، فكان فوزهم الساحق، شعبياً، انتكاسة خطيرة لصاحب العهد الذي اكتشف أنه لا يستطيع أن يحكم وحده، وكأنه في نظام رئاسي، وأن تفرّده يسيء إلى موقع »الأخ الأكبر« إذ يحرجه مع حلفائه من دون أن يُكسِبَه خصومه المحليين، قبل الحديث عن »الخارج«..
.. وضاعت أربع سنوات ثمينة (حتى لا نقول ست سنوات..) على لبنان المثقل بأزماته الاقتصادية، وبالشلل في إدارته، وبالفساد الذي استشرى حتى وصل إلى كل مفاصل الدولة والمجتمع، وبالاضطراب السياسي الذي شتّت الحلفاء وجمّع الخصوم وأبعد الشعب عن هذا الحكم المنقسم على ذاته والعاجز عن اتخاذ أي قرار في حين أن كل المؤسسات تتهاوى، وسمعة لبنان تتردى عربياً ودولياً .
وبطبيعة الحال فلقد كانت سوريا شريكة في الضراء، إذ لم يكن ثمة الكثير من السراء.
* * *
قُضِيَ الأمر، إذاً، فما لنا وللماضي… ولكن ماذا عن الغد؟!
لقد اختار رفيق الحريري لحظة خروجه من السلطة بدقة شديدة، فكان أن خرج كبيراً: ألمح إلى الأسباب جميعاً، من دون أن يصرّح فيجرح، وأومأ إلى المسؤول عمّا وصلت إليه الحال من دون أن يسميه، ولم يجد غير الله يستودعه اللبنانيين، ثم عاد إلى منزله وقد ارتاح وأراح…
على أن الأزمة بقيت كبيرة، بل لعلها صارت أكبر وأكثر تعقيداً، وإن كان الرئيس إميل لحود قد تنفس الصعداء أخيراً، إذ وفر عليه الحريري معركة »إخراجه« التي كانت ستكون مكلفة جداً، على مختلف المستويات، محلياً وسورياً، عربياً ودولياً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
ها هو إميل لحود في عهده الثاني يكاد يكون وحيداً، مهما تكاثر المستوزرون..
ولعله الآن يهنئ نفسه بانتصاراته في الداخل والخارج، التي لم تكلفه كثيراً، بل إن سهولتها تكاد تغريه بمزيد من التفرد والاعتداد بالنفس وبالقدرة الأسطورية على التصدي للحلفاء الأعداء والصمود في وجه الضغوط الدولية، بل وإلحاق الهزيمة بكل خصومه حيثما وُجدوا..
مبروك للرئيس لحود مغامرته الجديدة، في عهده الجديد.
لكن علينا واجب التنبيه إلى أن الباب قد انفتح على الخارج، ولم يعد ممكناً إقفاله، وأن »الدول« قد عادت تمارس شيئاً من »الوصاية« على هذا اللبنان المنهك سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، المثقل بالديون، الغارق في العتم لانقطاع الكهرباء (لألف علة وعلة، ومصادر العلة معروفة بالاسم)، والساكن في قلب الخوف من تفاقم الانقسام السياسي وانحداره إلى وهدة الافتراق الطائفي، والطائفية هي الاستثمار الأخطر في هذا البلد الصغير.
ونختم بالدعاء الملجأ: اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، لكننا نسألك اللطف فيه، وارحمنا يا الله، بجاه هذا الشهر الفضيل، فأنت أرحم الراحمين!

Exit mobile version