طلال سلمان

امير عبد لة في ارض صمود عربي

أهم ما في زيارة ولي العهد السعودي للبنان هي رمزيتها المتصلة تمام الاتصال بتوقيتها وبالبوابة التي اختارها لعبوره إلى هذه الأرض التي اشتاقت لأهلها والتي طالما افتقدتهم في ليل محنتها الطويل وفي نهار صمودها المجيد والمستمر.
فالكل يعرف أن القرارات في المملكة العربية السعودية لا تتخذ ارتجالاً أو تحت تأثير العاطفة أو تحت الضغوط السياسية، وأن حركة كبار المسؤولين فيها، وبالتحديد الملك وولي عهده، لها حساباتها الدقيقة وهي لا تتم إلا بعد دراسة متأنية للنتائج المحتملة وللظروف المحيطة ولمواقف الأطراف المعنية المتوقعة، سلباً أو إيجاباً.
واللحظة السياسية التي يعيشها لبنان، مع سوريا بطبيعة الحال، ومن ثم المنطقة العربية بمجملها، في ظل الطور الراهن للصراع العربي الإسرائيلي المحكوم بالشلل الذي أصاب »العملية السلمية« فعطّلها نتيجة اجتياح التطرّف مراكز القرار في تل أبيب (وفي واشنطن إلى حد بعيد)… ان هذه اللحظة تعطي لزيارة الأمير عبد الله بن عبد العزيز أبعادها الكاملة حتى ليكاد يفسّرها توقيتها وحده: إنه قرار بالتضامن الكامل في زمن عزّ فيه الصديق أو النصير.
لقد جاء الأمير عبد الله إلى لبنان بينما تشتد عليه الضغوط، من خارجه، وتستثار بعض عوامل الفتنة في داخله، لاستنزافه وإرهاقه بحيث يتحول بذاته إلى »مشكلة«، ويصير عبئاً على سوريا بدل أن يكون رديفاً لها في معركة الصمود، هذا بينما تتكامل حلقات الحصار من حول دمشق ممتدة من الأرض العربية المحتلة في فلسطين إلى تركيا مروراً بالأردن و»بالمنطقة المحتلة« لتكون آمنة للنظام التركي في شمالي العراق، ودائماً تحت الرعاية الأميركية المباشرة وبمشاركة من قواتها المسلحة بالذات.
وليس أمراً عارضاً أن يُعقد اجتماع دول إعلان دمشق في اللاذقية، بينما القطع البحرية التركية والإسرائيلية، مع مشاركة رمزية أميركية، تمخر البحر الأبيض المتوسط، أمام عاصمة الساحل السوري، مستحضرة عصور الاستعمار القديم والضغط بالسلاح من أجل تنازلات سياسية،
وفي هذه اللحظة السياسية بالذات فإن الموقف السياسي للسعودية بالتضامن العلني والصريح، أثمن بما لا يقاس من أية مساعدات مادية قد تُقدَّم، سواء لسوريا أو للبنان، هذا مع الإشارة إلى أن المملكة لم تقصّر في هذا المجال، مع الأخذ بالاعتبار ظروفها في حقبة ما بعد »عاصفة الصحراء« والابتزاز الأميركي المفتوح الذي يكاد يستنزف مواردها وموارد أقطار الخليج كافة.
وإذا كان لقاء اللاذقية لوزراء خارجية إعلان دمشق قد انتهى، كالعادة، مقصراً عن أهدافه المرجوة، لأسباب عديدة أهمها ظاهر (في البحر) أو معروف بالتصريح العلني أو بالارتباط اللاجم، فإن تزامن زيارة ولي العهد السعودي لكل من سوريا ولبنان مع هذا اللقاء الدوري الذي يصبح أكثر فأكثر شكلياً، يعلن ما قصّر وسيقصّر مثل ذلك اللقاء عن إعلانه والالتزام به: إن السعودية مع الصمود والصامدين، مع وعيها لتبعات هذا الموقف المكلف،
ومثل هذا الموقف السعودي ليس مجرد تعزيز للصمود السوري (واللبناني) بل إنه عامل تشجيع ضروري ولعله حاسم للقاهرة كي تتقدم مبادرة، كرة أخرى، إلى محاولة جمع الصف العربي مجدداً، وضبط مَن خرج على الالتزام بمقررات القمة العربية في العام الماضي.
إن لقاء هذا الثالوث العربي مجدداً وإمساكه بزمام الموقف العربي يكاد يكون شرط حياة، فاستمرار التشرذم العربي وتفاقمه ينذران بمخاطر مدمرة، خصوصاً وأن الخارجين على التضامن العربي يتلطون الآن وراء الولايات المتحدة الأميركية ويتخفّون تحت علمها وهم يتوجهون لإعادة الاعتبار إلى بنيامين نتنياهو ودعمه بينما أحزاب إسرائيل وقواها السياسية، بما في ذلك أركان حزبه ذاته، يكادون يتنصلون من حربه الاستيطانية المفتوحة ومن هوسه بالحرب ومَن تقصده إذلال كل أولئك الساعين إليه باتفاقات الإذعان ومعها الهدايا في العلب!
وما من شك في أن تهاوي العديد من الأنظمة العربية تحت ضغط الرعب من إسرائيل وحكومة التطرف فيها، و»هرولة« المهرولين إلى تلبية كل شرط يفرضه نتنياهو قد أضاف إلى مسؤوليات السعودية مسؤوليات جديدة، وأعطى لدورها المستجد بُعداً قومياً بالضرورة لم يكن على مثل هذا الوضوح في أي يوم مضى.
* * *
إن لبنان الذي استقبل ولي العهد السعودي بترحيب أخوي حار إنما أراد أن يعبّر عن موقفه السياسي تجاه المملكة كما تجاه شخص الأمير عبد الله، الذي عرفه اللبنانيون من خلال بعض أفضل رموزهم السياسية، وقدّروا له رعايته للحركة الثقافية وللمبدعين العرب عموماً من خلال إشرافه المباشر على »الجنادرية«.
إن اللبنانيين يرحبون بالزيارة ذاتها وبالزائر الكبير لشخصه ولدور بلاده.
إنهم ينظرون إليها ويفهمونها بالسياسة، ولذا فهم يقيّمونها تقييماً عالياً، لأنها أثمن مساعدة قدمتها وتقدمها المملكة.
إن دعم المملكة لصمود لبنان ولجهده بالدم من أجل تحرير أرضه المحتلة، ولوحدته الوطنية، أغلى بما لا يقاس من أي دعم مادي.
ولبنان الذي لا يمكن أن ينسى للسعودية دورها في التقريب بين اللبنانيين، ورعايتها لمؤتمر الطائف الذي فتح الباب لإنهاء الحرب الأهلية ومجيء السلم الأهلي، إنما يأمل من المملكة وقيادتها المزيد من الجهد لتوحيد الصف العربي، ولتعزيز الصمود العربي، ولمنع الاختراقات وحالات الشرود أو التفرد التي يعرف اللبنانيون ربما أكثر من غيرهم من إخوانهم العرب فداحة أكلافها، فقد طالما دفعوها بدمهم القاني.
فأهلاً بالأمير عبد الله في بلاده وبين أهله وإخوانه الصامدين فوق أرضهم، والذين حموا بدمائهم الكثير من قيم أمتهم ومن أسباب عزتها.
ولولا دماء المجاهدين المقاومين وبسالة الصامدين في أرضهم، والمؤمنين بوحدة لبنان وبعروبته، وبالتلازم المصيري مع سوريا، لما أمكن لبنان استقبال الأمير عبد الله ولا هو كان فكَّر بزيارته.
أهلاً بولي العهد السعودي في أرض الصمود العربي: لبنان

Exit mobile version