طلال سلمان

اميركا، الطاعون الدولي والعرب، في قوارب الموت

لسنا وحدنا. ننتمي الى عرب مهزومين. لا تصدقوا الاعلام. إنه صانع الوهم ومعمم “سعادة البؤساء”. لبنان، المصاب بالموت الحيوي، له اشقاء اشقياء، من المحيط الى الخليج.

لسنا وحدنا. طموحنا ان ننجو من لبنان. كنا نطمح ان ننجو بلبنان راهناً. كم كنا اغبياء ومُدَّعون و”انقاذيون”. كوَّمنا كلاماً هشاً وركاماً من المفردات. آمنَا بالتغيير. راهنا على المستحيلات. ثم وقعنا في الخذلان. الناجون هم المتسلطون. كل ما انتجناه، اننا عرّيناهم وفاحت رائحة فسادهم.  لكن بعد قليل، صار العيب والعار والنهب والتطيف والسقوط والانعدام، من فضلات الصراع المصيري الأكبر، والانخراط في المعادلات الدولية العظمى، ونراهن على الحل النووي الاميركي-الايراني.

تباً، لا يوجد اغبى منا. يكذبون علينا ونحن نصدق. لبنان ليس ضحية اميركا ولا هو ضحية إيران، والصراع في لبنان يختبئ خلف هذا العهر الدولي. الحقيقة، ان تدمير لبنان حصل بيد طوائفه وزعاماته بلا استثناء، وبمعية إعلام، رتبته الاخلاقية، انه حذاء قذر يطأ العقول والنفوس. الإعلام، جبهات تصدير الاكاذيب، التي تتناولها “الجماهير” الحقودة، طائفياً، وتستعد للمنازلة، وهي تعوي من الفقر والجوع والقلة والمرض والموت.

مع ذلك لسنا وحدنا. بؤساء العرب منتشرون من المحيط الى الخليج. ومعظم طموحهم ان يخلعوا احذيتهم على المطار او على الشواطئ، ويتسللوا الى اوروبا المرتكبة والى اميركا، الطاعون الدولي.

إذا قمنا بجولة على الشواطئ العربية المتاخمة للمتوسط، فماذا تلحظ؟ ولماذا لا يلحظ ذلك الإعلام “العربي”، الذي تُملى عليه الاخبار، من احذية الشرطة، وربطات عنق السفراء، وتجار الدم الذين يغسلون اياديهم من دمنا.

الشواطئ العربية النائية تعج بالمتسللين العرب اليائسين من “اوطانهم” وبالحالمين بالإقلاع الى المجهول الاوروبي، ولو كان الغرق يوافيهم مع الامواج.

عُدُّوا معي: هل تعرفون اننا نصدر شعوباً عبر قوارب الموت والغرق؟

لبنان ناشطٌ في نقل اللبنانيين من جحيمهم الى سراب الضياع، إن سمح لهم البحر ومنحهم عفواً، فلم يغرقوا فيه. طرابلس تصدر شواطئها العشرات. الإعلام اللبناني اخرس. فقط، عندما حلت كارثة الغرق، ركض الاعلام، ثم تشتت في تعريف الاسباب. الحق، ايها اللبنانيون، على الغرقى. هكذا قيل مراراً. هم ضربوا الطراد. لا هو. وقد غرقوا لأنهم، صنعوا الكذبة المناسبة.

لبنان هذا، برغم جحيمه العميم، هو احتفالية بائسة لموت ينام مع اللبناني في فراشه، واللبنانيون أولاد زناة القراصنة. قسمٌ مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مثلاً، وقسم اخر مع القاضية غادة عون. وقس على ذلك في كل ما له علاقة باللبناني: الكهرباء: الحق على مين. انفجار المرفأ، الحق على مين؟ (ضع اسم العدو الذي يناسبك). لبنان برمته غارق، ويعول على نجاته، من خلال وهم اسطوري: فريق يراهن على فوز اميركا وإسرائيل على حزب الله وإيران، وفريق يؤكد على الضد.

وبين هذا وذاك، يستمر اللبناني في العض على اللجام، ويروِّح عن مأساته من خلال رضاعته البز الطائفي. والاثداء الطائفية معطاءة ولذيذة ومسكرة. وداعاً للعقل. انه نفايات فلسفية. فلنكن واقعيين. لبنان هذا هو.

إذا كان لبنان في هذه الحالة من اليأس العلني، ومن الاستباحة المحروسة والمدعومة، فما حال سوريا؟ أكثر من مليون ونصف مهجر في لبنان، منذ 11عاماً. بؤس مرسمل برعاية اممية. ممنوع ان يعودوا الى بلادهم إذا تسنى لهم ذلك. لبنانيون “إنسانيون جداً”، ومن سلالة الرسل والانبياء. يرفضون عودة السوريين الى بلادهم. لأن النظام سيحاسبهم. قد يفعل، وهذا تراث سوري، وقد لا يفعل.  السوريون موزعون على مناطق سوريا. في جمهورية مشلعة: الشمال تحت القبضة التركية، وداخل الأمرة الكردية، والسوري طافر. فقير، مدمر. يبحث عن لقمة كل يوم. عن مدرسة. عن كتاب. لا تصدقوا ان الوضع عاد الى طبيعته. سوريا في كارثة وشعبها موزع في قارات العالم. ولقد كفر قسم منه ببلاده، ويفضل جحيم الهجرة، والغرق في البحر، على ان يعود الى بلاده، كل جملها تبدأ ب: “أمرك سيدي”. وما تبقى يعول على دعم سعودي، جف قليلاً. واماراتي توقف مؤقتاً، وتركي ينتظر حصته عندما يحين وقت اقتسام سوريا.

هذا بعض ما في سوريا. لا شعب سعيداً. ولا شعب حراً. ولا مستقبل، الا لعصابات النهب والسرقة والابتزاز والتهريب. فماذا عن العراق؟

لون مياه الخليج، نفط ممزوج بالدماء. العراق ينزف ارضه. شعبه “الواحد: كما قيل لنا، هو شعوب متناحرة. سبق وان تعرضوا الى الضرب بالكيماوي. كُتَابه آنذاك كانوا نزلاء العواصم الغربية. سفراؤه على طاولات الارصفة، ينتظرون من يجالسهم ليدفع عنهم ثمن فنجان القهوة (هناك استثناءات، ولكن هنا تأكيدات ايضاً). العراقي رأسه مرفوع. وجبينه متعفن. توزعوا في القارات. والعراق اغنى دولة وأقواها.

ولكن من كان مقامراً، يقع اخيراً، عندما يستعمل الخصم كل “الصولد”. المجرم الاميركي، (وهو لقب خاص به ويلتصق به) قرر تدمير الدولة عن جد، بعدما كان قد اعتمد على النظام العراقي لتدمير وسحق الثورة الايرانية.

حصل العكس.  عندها انقض الغرب، واميركا في الطليعة، على نظام صدام حسين، بعد اغرائه، غمزاً، بغزو الكويت… وكان ما كان. اين هو شعب العراق. اولاً، العراق لم يعد شعباً، صار شعوباً وطوائف. تماماً كما هو في لبنان وفي سوريا. الوحدة ماتت، الحرية تم اعتقالها منذ عسكرة الانظمة العربية وارهاقها بالقيود الاسلامية ذات الاجتهاد الاصولي. شعارات القومية والاشتراكية والوحدة وفلسطين، صارت في خبر كان وكل اخواتها… العراق، الذي مات، لم يعد لا هو ولا سوريا الى الحياة، اما لبنان، فمدمن على مراودة موته كل يوم. ولكثرة ما مات لبنان، ما عاد امامه سوى ان يموت مرة ثانية وثالثة، حيث ان الخلاص مستحيل. الطوائف في لبنان، اقوى من الله وكل الآلهة معاً.

هل تسمعون صوتاً مصرياً جائعاً؟ لقد تم اقفال افواه الناس. وضع مصر ماضٍ الى الافلاس والانهيار. الانفاق المصري عشوائي. المشاريع العظمى، تذكر بسياسات البلاط في غرناطة، عندما كانت جيوش الفرنج زاحفة، وعلى الاسوار.

مصر لم تعد مصرية، الهجرة مستدامة، انما الى بلاد الخليج، حيث الصمت هو السياسة الفضلى. العربي في الخليج، ممنوع من الكلام بالسياسة. ممنوع ان يشكو. ممنوع ان يرفع صوته. ممنوع عن كل شيء الا عن العمل، و”حق” الاجر وحده متاح… اذا قبض على “غريب عربي” يتحدث بالسياسة، انتهى عمره الاغترابي. انظمة الخليج، لها عدو واحد أحد. السياسة. تحدث بالخلاعة والف ليلة وليلة وليلة واكذب ونافق وتهاون و و و، ولكن اياك ان تكون عربياً. كن لا شيء فقط. اياك وفلسطين. عليك ان تعتاد على “شالوم… مشلمُخا آدوم”. هذه لغة لها مستقبل، ويمكن ان تحل محلة لغة القرآن. هل ابالغ؟ اراهن على أنى سأربح لأن البديل عن العربية، هو … اللغة الاميركية، الصهيونية. اللغة الاميركية غزت لغات العالم ولا تقوى عليها اللغة المقدسة.

هل ما زال اليمن حياً؟ يمن الحضارة. يمن ما قبل الاديان. يمن المن والشعر والحكاية واساطير الحضارة. كان اليمن يمناً عن جد، يليق بشعبه وتراثه. لُقِّب باليمن السعيد… يا ذلنا! اليمن لم يعد يمناً. ارضٌ مستباحة براً وبحراً وجواً، وشعبه وراء كل لقمة يهيم. انه ينزف من زمن دخلت فيه فلسفة التفريق والتمزيق، وزمن صار النفط متعسكراً. راهنا، لم يعد اليمن مسلماً. صار شيعياً وسنياً و… الاسلام ليس شيعة وسنة. راجعوا النص. تلمسوا روح القرآن. المتدينون جداً، بعيدون جداً عن الدين. الدين ليس سلاحاً، بل سلاماً… التدين النفطي والمذهبي وال… طيشر الشعب مراراً. انه شعب يقيم في الفراغ. الاسلحة صلاته في الليل والفجر والظهر والمغيب. حتى في الليل، يُضاء اليمن بالمقاتلات والقصف.

لماذا؟ اولا فقط: اليمن ليس شعباً بل شعوب، ولكل شعب مذهبه. وبما ان الصراع السني-الشيعي على أشده، ولا حرب اشد منه وأكثر عنفاً، فان الرماية لن تتوقف.

هذا المدى العربي، اهو ارض جنة عدن، ام جحيم لوسيفوروس؟ عداد القتلى لا يتوقف. نصف العالم العربي يتدخل هناك. ويشعل الحرائق ويكثر من نسل القتلى. الله هناك. يترجم قتالاً. يترجم علوياً وشيعياً وسنياً وقبليا، وينسب الى ايران والسعودية و..

الفريقان الابعدان، لا يصابان الا بما ندر. يفرح الفريقان بالخراب. يا ذلنا، يا عارنا، يا كل شيء ضدنا”. صح؟ طبعاً اننا نستحق ذلك، خاصة وأننا لم نبدأ من الالفباء لنتعلم وننتمي. الفباء الاجتماع، الانتماء الى الهوية المروية من الارض والتراث. الاسلام والمسيحية. ليسا هويات ابداً. سرقت الهوية، لأن اصحابها باتوا في “كل وادٍ يهيمون”.

والسؤال ذاته: هل هذه بلاد لشعوب ام مقار لقتلى. يجوز الوجهان. من صادق اميركا، عليه ان يمتثل. الاجتهاد ممنوع. الفتوى محرمة. الأمرة بيد واشنطن، وواشنطن حضن يتسع لكل الدويلات المحتاجة الى حام يحميها ويحكمها ويسلبها. دول الخليج ممسوكة ومطيعة وسباقة وهي ضد الممانعة. كلفتها انهيار امارات او تبديل امراء. الممانعة تعني حرباً مع ان شروطها بسيطة. ان لا تكون مع “اسرائيل”.

اميركا لا تسمح بذلك. كل الطرق العربية في المستقبل يجب ان تمر بـ”إسرائيل” مفهوم؟ السلام يعني التسليم. طبعاً ليس لله. سلموا تسلموا، ويصير اسلامكم مقبولاً وعلى رؤوس الاشهاد. وسترفع الأنخاب احتفالاً بـ”القدس” عاصمة عالمية، تديرها “اسرائيل”.

هل هذا وهم وخيال. جاك اتالي، قارئ المستقبل في كتبه الاخيرة. يتطلع ويتوقع، ان يصبح العالم معولماً بكامله. فلا اوطان من بعد، بل كيانات متصلة غير منفصلة، محكومة من مجلس عالمي، على ان تدار المناطق بحكومات محلية. لا تحيد عن استراتيجيات العولمة، وتكون “اورشيلم” عاصمة الكوكب المتحد.

هل هذه خرافة؟ اتمنى

العرب البائدة، متناثرة. شعوبها في حالة يرثى لها. هل راجعتم مسيرة السودان. درة النيل الازرق؟ كانت تراثاً ثم كانت مستعمرة. ثم حصل على استقلاله فتحول الى مقتلة لكل اهل اليسار. الفكر ممنوع. العقائد ابليسية. السلاح وحده صادق. وتغير السودان. انقلابات، دكتاتوريات، اسلاميات، الى ان باع نفسه، مرة لمصر، ثم لإيران مقابل برطيل، ثم للسعودية… “ماريكا” لم تكن كذلك… هذه ليست دولة. شعبها نبيل وشجاع وذو تراث، ومقموع ومقتلع ومشلع، بين شمال مقيد بالعسكر، وجنوب “استقل” فتبعثر. جاره مصر. اخوه اللصيق، عدوه الدائم. تماماً كما الحال بين العراق وسوريا. وبين سوريا ونصف لبنان. لا أحد يشبهها. نحن النموذج الاكثر بشاعة وخسائره فادحة. مغنية مصرية كانت تعني زمن عبد الناصر: “يا مية مليون عربي بطل” لا تعليق. لعل كلمة “تنك” تكون قافية أكثر صدقاً. البطولة، لا نجدها بكل فخر، إلا في فلسطين. هل سمعتم، يا من تبقى من سلالات العرب؟

واهل السودان، يهاجرون. عندنا في دنيانا، بضاعة ناصعة للتصدير. ولكن بطرق سريعة عبر القوارب المنطلقة من شواطئ المتوسط. هذه بلاد تطرد سكانها، تماماً، كما هو لبنان، الذي يتباهى بأحقر ما عنده: لبنان المقيم ولبنان المغترب. الم يسأل أحد لماذا يتغرب؟ لماذا أكثر من نصف لبنان موزع ومشتت. يا للعار! هكذا السودان ايضاً.

في العدد الاخير من جريدة “لوموند ديبلوماتيك” عن شهر تموز(يوليو)، تحقيق ودراسة عن الهجرة السرية من الجزائر الى اوروبا. الجزائر الذي سكر بالاستقلال، وتمتع بنشوة الحرية، اصيب بنكسة في الكرامة والمعدة والعمل. حكم عسكري، بوليسي. الديموقراطية ممنوعة. تهمتها تصل الى حد اختفاء حاملها. دولة غنية، زراعة وصناعة ونفطاً وارضاً، واغنى من ذلك نضالاً “ولى زمن يا سلاحي”.

انتهى زمن السلاح، وبدأ عصر القمع. التفكير ممنوع، الافق مسدود. الفساد دين الدولة.  “قارع. اروح غدوة”. هو منطق الادارة السائبة. الجزائر منعت الفكر وروجت فقط للطاعة… وكانت النتيجة الهرب من الجزائر. فرنسا تئن من المهاجرين الجزائريين، ولم تتمكن من لجم التدفقات بالقوارب التي تطأ شواطئ الجنوب على المتوسط.

ليبيا؟؟

انها المرفأ الكبير لهجرة العرب والافارقة. كان ذلك من زمن القذافي، وكتابه الاخضر. وجنونه غير المستتر. لا شك ان العرب ارتكبوا في تاريخهم اخطاء وفضائح. ولكن، مثل القرن العربي الفائت وهذا القرن كذلك. غنى طبيعي ويتبدَد وشعب نبيل يستعبد. ملوك ورؤساء وامراء “اشقاء”، مارسوا الاغتيال والاغتياب … آخر همهم. الاهتمام بالشعب وحاجاته. اول همومهم، كيفية اخراس شعوبهم ونجحوا.

عاملوا الأمة العظيمة الرائدة، كأمة وعبدة حكموها بأقدامهم.  داسوها. ذوقونا طعم دمنا.

ماذا بعد؟

لا شيء. طبعاً لا شيء. المستحيل امامنا. الوحول الدموية معنا.

 

ما هو مستقبلنا؟ لا اعرف. الدولة الوحيدة التي اسست مستقبلا لها هي “اسرائيل”. نعم “اسرائيل”.

انما، انما، انما، الشعب الفلسطيني. شعب عن جد ولم يستسلم.

آمنوا إذا بفلسطين. “الله يهيدكن”.

Exit mobile version