طلال سلمان

امتحان اول رئيس طبيبا

نجح بشار الأسد في »امتحانه« الأول الذي تقدم إليه ممتلئا ثقة بالنفس وإيمانا ببلاده، تحت أنظار العالم كله، وقد كان الجميع يتابعه بالقطع، أمس، وهو يلقي خطاب القسم من على منبر مجلس الشعب في دمشق، مقدماً برنامجه للعهد الجديد بل المجدّد في سوريا.
أول عنوان للنجاح أن بشار الأسد، وفي أول إطلالة رسمية له، كرئيس للجمهورية العربية السورية، قدم نفسه كرجل دولة مستخدما لغة »الطبيب« بديلاً من لغة القائد السياسي أو الحزبي، وهكذا فقد كان رصين العبارة، دقيق التشخيص والتوصيف، مبتعدا عن النبرة الحماسية والتعهدات المطلقة.
لم يقدم نفسه كوريث لا يحتاج في تبرير تسنمه المنصب الصعب إلا الانتساب إلى الأب صاحب الإنجازات الكبيرة والعديدة.
لم يقدم نفسه بشفاعة الماضي، على اعتزازه به كمسيرة وكمنعطف في التاريخ الحديث لسوريا، خاصة، وللوطن العربي عامة.
بل انه، وهو المعتز بانتسابه إلى حافظ الأسد بالولادة، تحدث لغة من يدعو للانتساب إلى المستقبل، ومن يفهم ان حماية الذي تحقق بالأمس لا تكون بالجمود عنده وتصنيمه أو بالتردد أو بالارتجال أو بالقفزات المتسرعة بذريعة تعويض ما ضاع من زمن واللحاق بالعصر قبل أن يفوتنا قطاره!
ولأنه استخدم لغته العلمية كطبيب أخذته الرغبة إلى التخصص في علاج العيون، فقد أوصله التشخيص المتأني، والمستند إلى العلم كما إلى الواقع، إلى تحديد العلل ومكامن الخلل، ومن ثم توصيف المعالجات الضرورية والتي لا بد أن تتم بغير تعجل، وبغير تجريبية قد تفاقم المرض، وبغير إبطاء بدافع الخوف على الجسم المريض من »الصدمات« أو الجراحة التي قد تكون ضرورية.
لم تمنعه عاطفة التقدير العظيم للأب القائد من أن ينقد سلبيات النظام وعيوبه، وبعضها تكوينية والبعض الآخر طارئ وناتج عن مجافاة الحقيقة والهرب من الرقم الفضاح أو تزويره لتظل الصورة الظاهرة زاهية بينما الوضع الفعلي، لا سيما في المجال الاقتصادي وفي الأداء الحكومي وفي الدورة الانتاجية للقطاع العام، يقع بين حدي الفضيحة والجريمة.
لم يخجل من الجهر بالحقائق التي يعرفها العالم كله عن مستوى الدخل الوطني والفردي ومشكلات التصدير وتعثر الانتاج، والإشكالات التي يعاني منها القطاع الخاص فتمنعه من المساهمة بدوره الحيوي في الدروة الاقتصادية للبلاد.
ولم يتسرع فيدعي أن في جيبه وصفة سحرية للشفاء.
لكنه بشجاعة »القائد« قال إنه يملك مشروع خطة للعلاج، وإنه يحتاج إلى الكفاءات الوطنية، بل والعربية، معه في تنفيذ البرنامج الطموح الذي يمكن أن يحقق لسوريا في المجالات الاقتصادية عموما، وفي دورة الانتاج وكفاءة الادارة، مثل ما حققته القيادة المتميزة لحافظ الأسد على المستوى السياسي بدءا بلبنان، مرورا بالمكانة البارزة التي صارت لسوريا عربيا، ودوليا، وانتهاءً بدورها الذي لا يمكن تجاوزه أو إغفاله أو تقزيمه أو القفز من فوقه في الصراع العربي الإسرائيلي، والذي ما زالت دمشق تملك مفتاح التسوية فيه.
ولعل الرئيس بشار الأسد لم يكن يحتاج إلى شرح جديد أو إعادة تحديد لموقف سوريا من كل ما يتصل بالقضايا القومية عموما، بدءا بضرورة إحياء التضامن الذي تهاوى (في التسعينيات خاصة) حتى كاد يندثر، وصولاً إلى الجامعة العربية ومطلب السوق العربية المشتركة، وانتهاء بالعلاقات الخارجية مع الشرق والغرب.
في الشأن القومي، وفي موجبات الصراع العربي الإسرائيلي، كانت تكفي بشار الأسد الثوابت التي صنعت مجد الأب، لالتزامه بها برغم كل الضغوط والإغراءات، والتي جعلته بطل الصمود العربي، وشرفته بأن مكّنته من وقف الاجتياح الإسرائيلي للهيمنة على المنطقة العربية برمتها، كما تطمح، إن لم يكن على أرضها فعلى إرادتها.
وهو تجنب كل ما يمكن أن يحرك الحساسيات »الكيانية«، فلم يحدد مواقف جديدة من دول الجوار اللهم في ما عدا لبنان، ولعله لم يشأ أن يساء تفسير أي كلام يقوله عن القضية الفلسطينية بينما »السلطة« كلها مع قيادة إسرائيل في ضيافة مفتوحة لدى الرئيس الأميركي في كامب ديفيد.
وحول لبنان فإن بشار الأسد تحدث بوعي كامل لخطورة إنجاز أبيه وقائده حافظ الأسد في هذا البلد الصغير جدا، المعقدة أوضاعه والمتشابكة فيه الإرادات والأغراض والغرائز والحساسيات الطائفية والكيانية، بحيث تكاد تقدمه كمختبر دولي، وكساحة صراع مفتوح أبدا بين العقائد والمصالح، في ظل تفوق إسرائيلي شبه مطلق عسكريا وسياسيا واقتصاديا كان قد ارتهن الموارد والإرادات والقرار أحيانا.
وهكذا فإن الحديث عن لبنان جاء ليؤكد أنه الإنجاز الأخطر لحافظ الأسد خارج حدود سوريا… ولعل مشهد مجاهدي المقاومة المنتصرة بالتحرير، عند ضريحه في القرداحة كان صورة مجسمة لهذه الحقيقة.
إنه الخطاب الأول: إطار العمل.
ومؤكد أن السوريين الذين أعطوا أصواتهم بكثافة لهذا الرئيس المجدّد، سيعطون أفضل جهودهم لبرنامج التطوير واستكمال بناء سوريا الحديثة، لأن النجاح في تنفيذ مثل هذا البرنامج شرط حياة لسوريا، وشرط سلامة للبنان، وأحد شروط التقدم العربي في اتجاه استعادة التضامن وتوحيد الأهداف التي تاه معظم العرب عنها.

Exit mobile version