طلال سلمان

اما فلسطين فلن تموت

لا وقت للحزن. الحزن ترف لا يقدر عليه المحاصرون في فلسطين بمخططات الاقتلاع والإبادة. الحزن ذخيرة حيّة يجب ألا تبدد في الرثاء. الحزن رفاه لا يطاله المهددون بالأصعب والأقسى، وقد فقدوا »الرأس« الذي طالما تدبر أمر التغلب على الصعاب.
لا وقت للحزن، و»القائد« يرحل وهو بعيد، وعودته تخضع لشروط تزيد من التكريم الشكلي حتى تنقص من دلالاتها الفعلية المتصلة بالحق في الأرض، والحق في الاستقلال، والحق في الحياة كأي شعب في أي أرض.
لا وقت للحزن، والقاهرة تتحول إلى مسجد للصلاة على الشهداء، وقد كانت المنطلق والبندقية والقائد وقاعدة التحرير.
لا وقت للحزن، والقادة يأتون لكي يشهدوا على الوفاة ويقرأوا الفاتحة، ثم يعودون من حيث جاؤوا تاركين لفلسطين أن تستعيد جثمان رئيسها وبطل ثورتها داخل سجنها الذي بلا أبواب.
الكل سيمشون خلف الجنازة، خطوات معدودات، ثم يعودون إلى كراسي حكمهم ليطمئنوا أن فلسطين لم تزعزعها بحيث تعجز عن حملهم، وتتهددهم بالسقوط، بغير شهادة ولا مشيعين.
* * *
لا وقت للحزن. الوقت للعمل من أجل ترسيخ الوحدة في الداخل وحمايتها من التصدع الذي أصابها فباعد بين رفاق السلاح، وجعل من »السلطة« جداراً يفصل واحدهم عن الآخر، ويجعل البعض يتربص بالبعض الآخر، في حين تسحب إسرائيل الأرض من تحت أقدامهم جميعاً، وتتركهم يقتتلون في مساحة محدودة أولها الاختناق وآخرها الاغتيال.
لا وقت للحزن، وفرنسا أكرم على فلسطين من أهلها العرب يجيء رئيسها إلى وداع قائدها، وترافقه حكومتها إلى المطار، ويحمله جنودها على أكتافهم باحترام للتاريخ وللحياة ولحقوق الشعوب، قبل الموت وبعده.
لا وقت للحزن، وشعب فلسطين يبدو وحيداً، يتكاثف من حوله حصار العدو بتسليم »أهله« بهذا الحصار. جدار يعلو ليحجب جداراً، وفلسطين خلف الجدارين تنزف دمها وتاريخها وحقوقها، والعرب لا يجرؤون حتى على إلقاء تحية الوداع.
يقولون إنهم مشغولون عنها بالعراق، وللعراق يقدمون عذرهم الفلسطيني، ثم يعتذرون لشارون بأنهم لا بد أن يجاملوا ضحاياه، ويعتذرون لجورج بوش بأنهم لا بد أن يشاركوا في تشييع هذا الذي أراحه وأراحهم وارتاح.
* * *
لا وقت للحزن. فلسطين أكبر من قائدها. أكبر من فتح ومن السلطة ومن منظمة التحرير. أكبر من كل »الدول« التي لم تستطع أبداً أن تكون دولاً. أكبر من كل أصحاب الشعارات الذين لم يستطيعوا مرة أن يحولوا الشعار إلى عمل في مستوى دلالاته ومعناه.
لا وقت للحزن. فلسطين أكبر من كل »العقائد« التي ناء بحملها العقائديون فتخلوا عنها أمام أول عرض بمقعد في سلطة وهمية، أو بثروة لا تعوّضهم كرامة الفكرة التي باعوها في سوق النخاسة. وفلسطين أكبر من كل »الأحزاب الحاكمة« التي أخذت شعوبها إلى الهزيمة الكاملة، في الداخل والخارج، والتي مهّدت لعودة الاحتلال الأجنبي ومكّنت للاحتلال الإسرائيلي، وطاردت شعوبها حتى في المنافي، واغتالت كلمة »لا« حيثما ثقفتها، ولو كان القرآن الكريم.
* * *
لا وقت للحزن. لقد مات ياسر عرفات، وكان لا بد أن يموت، كأي إنسان، زعيماً كان أم قائداً، بطلاً
كان أم نصف بطل لنصف ثورة أم شبه رئيس لشبه دولة.
أما فلسطين التي ظلت أكبر منه في حياته فهي أكبر منه في رحيله. إنها باقية لا ترحل ولا تزول. تشهد علينا جميعاً وتحاسبنا اليوم وكل يوم، عن الأمس كما عن الغد. تسأل: ماذا فعلتم لأنفسكم، ولا تسأل: ماذا فعلتم لي؟ فمن نسي نفسه في استسلامه للقدر الإسرائيلي لن يتذكرها. بل إنه يستسلم كي ينساها.
لم يكن ياسر عرفات فلسطين. كان واحداً من المقاتلين، على طريقته، من أجلها.
وفلسطين ولاَّدة. وهي قد أنجبت، خلال المواجهة كما خلال الحصار، مَن هو أعظم شجاعة، وأعظم بذلاً، وأعظم قدرة على المواجهة من ياسر عرفات.
لقد خسرت فلسطين قائداً، لكنها لن ترحل معه. لن يقتلها حزن الفقد، ولن يقعدها بعده اليأس.
لقد قاومت قبله، وقاومت معه، ولسوف تقاوم بعده.
بل هي قد قاومته، هو بالذات أحياناً، ولسوف تقاوم هؤلاء الذين سيحاولون أن يعطوا من لحمها ما يوفر لهم الفرصة لأن يحكموا »ما تبقى«.
إن فلسطين التي جعلت رئيس فرنسا يذهب إلى وداع عرفات مرتين، ثم يقيم له جنازة رئاسية، أكبر من أن يستطيع تضييعها المساومون والمزايدون والمناقصون.
إن مرحلة جديدة قد بدأت، وهي الأصعب والأقسى… فلنرجئ الحزن، حتى ننجز المواجهة الجديدة بتحديد الخسارة في الفقد، ومحاولة تعويضها بمزيد من وحدة الصمود لما يدبّر لفلسطين التي غدت بلا عرفات، ولكن رأسها ممثلاً بشعبها هو الآن في ذروة صحوه، وفي ذروة تنبهه حتى لا يضلّه المساومون الذين سوف يقولون غداً: إنما نمشي على طريق عرفات، ثم يفاجأ بهم لا يفعلون غير محو تجربته تماماً ليذهبوا إلى حيث رفض أن يذهب وفضّل أن يموت واقفاً على أن يزحف إلى قاتل فلسطين طالباً عفوه.
مات عرفات. عاشت فلسطين.

Exit mobile version