طلال سلمان

الياس الهراوي المواطن العادي رئيسا استثنائيا!

قبل تسع سنوات طويلة كان من الصعب تخيل الياس الهراوي رئيساً للجمهورية.
ومع انه كان واحداً من المدرجة اسماؤهم في قائمة المرشحين، تقليدياً، فهو كان عند انتهاء مؤتمر الطائف من الدعاة لرينيه معوض رئيساً..
وحين هوى رينيه معوض على طريق العودة من حفل الاستقبال المحصور والرمزي بعيد الاستقلال، وسط اجواء يغلب عليها الحنين والخوف على بهجة العيد ورئاسة الانقاذ، كاد ينطفئ معه آخر أمل بقيام الجمهورية المثخنة بالجراح والمثقلة بالدمار وقد أصاب البشر أكثر مما اصاب الحجر، والتي رئاستها قاتلة لرؤسائها في بعض الأحيان، ولشعبها في العديد من الاحيان.
وكان اختيار الياس الهراوي اضطراراً، وتحت وقع الصدمة، وبالرغبة الحارقة لتجاوزها بأسرع ما يمكن، وبأي ثمن.
كان وحده »الفدائي« الذي قبل بهذه المهمة الانتحارية، وقد عرضت على غيره فخاف منها على نفسه، او خاف ان يكون العرض مجرد دعوة للاستشهاد!
ولقد استقبل كثيرون خبر انتخاب »المرشح الاوحد« وكأنه »نكتة« في زمن المآسي في البلد الذي يشيّع بعضه بعضاً بلا حداد!
آخرون رأوا في الخبر اعلاناً بنهاية لبنان: ذهب الاقوياء، وجاء زمن التسلية المأساوية مع الضعفاء والعاجزين عن القرار«!
ولأيام بائسة وطويلة ظل »الرئيس« رهينة في ثكنة أبلح، يقبع تحت الحراسة المشددة، ممنوعة عليه الحركة، ولا يملك من اسباب الحكم شيئاً، فلا جيش ولا مال ولا إدارة، وفي القصر الجمهوري ببعبدا »جنرال« يغتصب السلطة ويحتل عواطف الشارع بالمدافع وقذائفها القاتلة لأطفال المدارس وخطب التهييج الطائفي المغلّفة بالمزايدة الوطنية للمراهقين الذين يفضلون حدائق القصر الجمهوري على المدارس!
ومن ثم كان على الياس الهراوي ان »يتسلل« بعيداً عن كل أبّهة الرئاسة الى بيروت، ليغدو »رهينة« من جديد في عمارة سكنية كانت قد أنجزت حديثاً، تبرع بها مالكها رفيق الحريري لتكون »مقراً رئاسياً مؤقتاً«.
اليوم، وبعد تسع سنوات حافلة بالتطورات والاحداث وبالصعب والمؤلم من القرارات، وبالعداوات والمخاصمات والاغتيالات والمحاكمات وبالمبهج من الانجازات وعمليات الترميم والتجميل، يكاد يصعب تخيل هذه »الجمهورية« المنبعثة من قلب الدماء والرماد والفجيعة من دون الياس الهراوي.
وبرغم أن رئاسة الياس الهراوي قد استعدت عليه قوى ومرجعيات وشخصيات سياسية عديدة وقوية، قبل التمديد ثم بنسبة أعلى بعده.
.. وبرغم ان اتهامات قاسية ومتنوعة قد وجهت إليه فطالته في سيرته الشخصية وخرقت حرمة بيته وعائلته، وكادت تخرجه من مدينته زحلة أو تخرجها عليه، كما طالته في سياسته الداخلية وفي مواقفه الخارجية، ولعلها لامست في بعض الأحيان ذمته المالية.
برغم ذلك فإن »خصوم« الياس الهراوي يعترفون، مثل أصدقائه، ان الرجل قد ترك بصماته على التاريخ السياسي الحديث لهذا البلد البلا داخل، ولهذه الدولة قيد التأسيس، وانه سوف يشكل محطة بارزة في المستقبل فيقال: قبل الياس الهراوي وبعد الياس الهراوي…
كذلك فإن »خصوم« الياس الهراوي لا يستطيعون أن ينكروا على الرجل إيمانه بالديموقراطية، تستوي في ذلك علاقته بالمؤسسات الدستورية أو بالصحافة والاعلام أو بالقوى الحزبية والنقابية.
ولعل من حسن حظ الياس الهراوي ان بعض شركائه في السلطة كانوا يضيقون ذرعا بأي شكل من أشكال الممارسة الديموقراطية، سواء أتمثلت بالانتخابات النيابية أم بانتخاب البلديات أم بانتخاب المكتب التنفيذي لهذه النقابة أو تلك.
كذلك فإن »خصوم« الياس الهراوي لا يستطيعون أن ينكروا على الرجل انه على حد تعبير الرئيس نبيه بري »كان الأقل طائفية بيننا، نحن الموجودين في السلطة«.
أما ظرفه وخفة دمه وسرعة بديهته وبراعته في المناورة والتكتكة والمشاغبة على »الخصوم« كما على »الأصدقاء« وعلى »المراجع« كما على الشركاء في السلطة، فهذه لا تحتاج الى شهادة من أحد.
وبالتأكيد فإن رئاسة الدولة، أية رئاسة في أية دولة، لم تعرف رجلا يتحدث باللسان الزحلاوي، أمام أرفع المقامات، وفي أخطر المؤتمرات، كما الياس الهراوي.
لقد »أدمن« اللبنانيون الياس الهراوي، وباتوا يقلّدونه وهم يتحدثون »بلغته« الخاصة جدا، وحفظوا عنه الأوصاف و»الألقاب« التي أطلقها على بعض »الكبراء« من رجال الدولة كما على الكثير من »صغارهم« والتي لم توفر حتى أقرب المقربين اليه من عائلته.
وليس مبالغة القول إن الياس الهراوي قد »انسن« الرئاسة، او »زحلنها«، وإنه اشاع في القصر الجمهوري جواً من البهجة لم يألفه، فترددت في جنباته اصداء الموسيقى وفتحت أبوابه لأساطين الطرب والمواهب الواعدة.
لقد انتهت رئاسة »الرجل العادي«، الذي بدأ من تحت الصفر وانتهى بمرتبة استثنائية لم يسبق ان حظي بها أي رئيس.
ويا »ابا جورج« سيفتقدك اللبنانيون: رئيساً من خارج السرب، وكنت أقرب اليهم من كل الذين حملوا اللقب الفخم قبلك!
أما الباقي فهو للتاريخ وقد تركت فوقه بصماتك مرتين، مرة بالجد ومرة بظرفك الذي تفوقت فيه على جميع »الزحالنة« الآتين »من دار السلام« حيث »مربى الأسودي« وحيث الموت »ببوز البارودي«…
وإلى اللقاء معك مواطناً طوع المصادفة فصار رئيساً وصارت له »جمهورية« ولو قيد التأسيس!

Exit mobile version