طلال سلمان

الى جهنم ديموقراطية رحم لة جمهورية لبنانية

ها أن النواب، ممثلي »الشعب«، رموز الحياة الديموقراطية، القيمين على حماية الدستور، مشرّعي القوانين، يتوجهون خلال ساعات إلى إبداع إنجاز تاريخي عظيم: إذلال »الشعب« الذي »انتخبهم« بضرب وحدته، وتحقير الديموقراطية بنسف ركائزها، وشنق الدستور، ومسخ القوانين، والتمهيد لتفتيت الدولة التي كانت ذات يوم »جمهورية« نظامها ديموقراطي برلماني.والنواب معذورون، فهم لم يكونوا يعرفون أنهم جاءوا إلى البرلمان بقانون للانتخابات يجافي إرادة الشعب، ويتجاهل طبيعة تكوينه، ولا يداري حساسيته إزاء الديموقراطية…أما وقد اكتشفوا، ولو متأخرين، أن القانون الذي جعلهم نواباً جائر ورديء ومناف للإرادة الشعبية، وأنه من نتاج »عهد الوصاية«، وأنه كان وسيلة لتحكم طوائف بأخرى، فها هم يهبون هبة رجل واحد لتمزيق ذلك القانون الملعون، لكي يتحرروا من قيده فيستعيدوا قرارهم المستقل ويعيدوا الشعب إلى طوائفه ومذاهبه المغتصبة!وها هم قد وفقوا إلى الحل الصحيح: يتوقف قمع الحريات، وإكراه الناس على ما لا يريدون، ويعود من كان »مواطناً«، أو كان محتملاً أن يصير »مواطناً« إلى جحر طائفته فيقبع فيه آمناً، لأن الطائفي الآخر سيلتهمه فيلغيه… بالديموقراطية اللعينة، والتي هي رجس من عمل الشيطان ينبغي اجتنابها!إذا صارت الديموقراطية خطراً على الطائفية، فإلى جهنم الديموقراطية والديموقراطيون وبئس المصير!من قال إن في لبنان شعباً واحداً إنما يتجاهل حقائق التاريخ والجغرافيا وشجرات الأنساب والألقاب التي تشهد بالعراقة والدم الأزرق المستورد!إن لبنان عالمي، أممي، كوني… إنه »عينات« من أمم شتى، لم تكن متحدة في أي يوم، ولا هي قابلة للاتحاد في أي غد: ثقافات عدة، أذواق متباينة، أزياء مختلفة، لهجات متمايزة، طبائع متنافرة…حتى اللغة الموحدة اندثرت أو تكاد: البعض يلثغ بالفرنسية، والبعض يرطن بالإنكليزية، وقلة قليلة ما تزال تنطق بالعربية حتى وهي تجهل أصول نحوها وصرفها المستحيل فهمها والمستحيل حفظها إلا بشق النفس. ثم إن العربية لغتان: فصحى، وهي صعبة وثقيلة على المعدة، وعامية وهي مهضومة وعملية، ولكنها تتفرع إلى لهجات بحسب المناطق والأصول، بما يؤكد أصالة هذا الشعب وعراقته وأمميته إذ أنها خليط من السريانية والمسمارية والعبرية والحميرية واليونانية مع بعض الإضافات الفرنسية المحرفة والتركية المبسطة والفارسية المطعمة بالألمانية إلخ.إن القانون الجديد للانتخابات النيابية يعيد النهر إلى مجراه الطبيعي، ويعيد الناس إلى أصل الخلق!بل إن القانون الجديد إنجاز باهر إذ إنه سيلوي عنق التاريخ فيعيد لبنان إلى سابق عهده الذهبي في ظل المتصرفية، حيث كان ينطق اسم الشخص مسبوقاً بطائفته: الماروني فلان، الدرزي فلان.. وكذا الأمر مع السني والشيعي والأرثوذكسي والكاثوليكي والخوارج من بروتستانت ويهود وعلويين وإنجيليين ومنشقين أخر، فضلاً عن الملاحدة الملعونين.إنها عودة إلى الجذور، إلى بداية الخلق الذين كانوا أمماً شتى.ولأن لبنان سبّاق دائماً، واستثنائي في كل ما ينجزه، ورائد في الأخذ بالتطور، فإن نوابه يقدمون دليلاً جديداً على إبداعه بأن يعيدوا شعبه إلى قبل اختراع الانتخابات وصندوقة الاقتراع وتحويل الإنسان ـ وهو أعز مخلوقات الله ـ إلى مجرد مواطن، مثله مثل الآخر، لا يميزه عن غيره شيء: صوته مجرد صوت، أي مجرد رقم، بينما لم يخلقنا الله متساوين بل إنه، جل جلاله، قد ميز بيننا فجعلنا طبقات!إنه قانون فريد في بابه يستحق أن يُدخل لبنان إلى موسوعة »غينيس«، ويستحق أن تعتمده الأمم المتحدة كسابقة استثنائية في ليّ عنق التاريخ وجعل الأمس في الغد!بذريعة الديموقراطية أسقط »الكفرة« العلمانيون الدين، ثم سفهوا الطائفة والمذهب، ونسّبوا الناس جميعاً إلى البدعة الجديدة فجعلوهم مجرد أوراق في صندوقة اقتراع، يدعون أن الفائز بأكثرها هو نائب عن الأمة… أي إنه نائب عن لا أحد!لكن الشمس تشرق دائماً بعد غياب، وها أن النواب قد عادوا إلى رشدهم، وأعادوا الاعتبار إلى طوائفهم ومذاهبهم، وقسموا الدوائر على المقاس، بحيث لا يفوز في »الدائرة« إلا ابنها المعروف أصله وفصله، ودينه ومذهبه، فيكون النائب عن الموارنة مارونياً صحيحاً، وعن المسلمين السنة سنياً حنيفاً، وعن المسلمين الشيعة شيعياً إمامياً، وعن الأرثوذكسي أرثوذكسياً مستقيم الرأي، وعن الدروز موحداً، وعن الكاثوليك بابوياً أصيلاً إلخ..إنه إنجاز تاريخي: سيكون مجلس النواب الجديد تجمعاً للمجالس الطائفية والمذهبية والملية، بحيث لا يستشعر رعايا أي طائفة بالغبن أو بنقص التمثيل أو بالتغييب المقصود للتفرد بالقرار.وهكذا ستكون الجمهورية اللبنانية فريدة في بابها: شعبها نموذجي في تعصبه، الذي يكاد يخرجه من الدين، في حين أن ندوة التشريع فيه ستكون أشبه بمجمع مسكوني للأديان والمذاهب والملل المموهة بالديموقراطية التوافقية، وهي الوالدة الشرعية للحروب الأهلية في كل مكان وزمان!.. والحمد لله أن المجلس النيابي قد منع عن الشبان دون سن الحادية والعشرين حق الانتخاب، لأنه بذلك استبقى بعض الأمل في انتفاضة تعيد الدين إلى موقعه لتكون لهم حرية أن يقرروا غدهم.. ديموقراطياً!عاش نواب الطوائف والمذاهب… رحم الله الجمهورية اللبنانية!

Exit mobile version