طلال سلمان

الوقوع والواقع

هل الشعور بالقهر هو ما يولد الإحساس بالعجز، أم أن الإحساس بالعجز هو الذي يوّلد الشعور بالقهر؟

هل مازال لهذا السؤال أي جدوى الآن، وهنا؟

هل هناك متّسع للإحساس أو للتفكير في خضم الدوامة القائمة التي لا ترمي إلّا إلى إنهاء النهار لتعجيل الانغماس في خدر النوم؟

كيف تحلّ القدرة على التحمّل، وتستوطن ثم تشرع بالتوسّع إلى حدود تفوق القدرة على التخمين؟

تحلّ “الوقائع” المستجدّة، تنزل دفعة واحدة، وأحيانا تتوالى الواقعة تلو الأخرى، وتتمدد أفقيا، وعاموديا، وتحتل الصورة بمجملها.

و”الواقعة” يمكن أن تكون من أخوات وقع، ويمكن أن تكون من أسرة واقع، ولكن، على الأرجح أنّه، حين تقع الواقعة، فإنّها تصير واقعا!

والواقع يمكن أن يكون كل من وقع جراء ما وقع به. أو ما يقع في النفوس من ضيق، وفي العقول من شلل، وفي القلوب من خواء، وفي العيون من جفاف، وفراغ.

لكن المؤكد أن من وقعوا هم “نحن”، المقيدين بالواقع، واقع لم يحلّ بنا، بل كنّا نراقبهم وهم يعدَونه لنا، حكّامنا، فلما وقعنا أمعنوا في استرخائهم، وجثموا فوق أنقاضنا يعدّون للمزيد.

إلى ما لا نهاية سيمتد هذا الواقع، وسيُحكم قبضته ليسحب الأشياء كلها إلى مجهول تلو الآخر، مجهول حمّال أوجه، كلّها قبيحة. إلى ما لا نهاية سنلجأ إلى تجميد المشاعر كنوع من أنواع الدفاع عن النفس. إلى ما لا نهاية، سنصدر أوامرنا إلى العقول والقلوب كي تتوقف عن تأدية مهامها، إذ لا وظيفة لها، الآن وهنا.

إلى ما لا نهاية سنستمر بالهرب من الأغنيات، وألوان أوراق الشجر، وضي البدر حين يسود، وزيارات العصافير الخاطفة للزرع الصامد على الشرفات.

إلى ما لا نهاية سننسى ما قرأناه، وما حصّلناه من علم، وأبيات الشعر التي تحملنا إلى حيث(كنّا) نريد أن نكون.

إلى ما لا نهاية سنستمر في تجنب من نحبّ، وفي تجنب أنفسنا.

إلى ما لا نهاية سنمعن في الهروب من كل ما هو قادر على إحياء ما (كنّا) نحبّه من ذكريات وأفكار ومشاعر، وغيرها من معان بتنا نعرف أن الحياة ممكنة من دونها. أو أن حياة ما ممكنة من دونها. حياة لا مكان فيها إلا للقبح. حياة تصبح أسهل مع القبح. قبح يشبهها.

هكذا، في الواقع، يُجرّد الإنسان من انسانيته، يجرّد من كل ما خبره، وكوّنه، وجعله ما هو عليه اليوم، ومما كان يأمله من غده. تُصادر الأزمنة كلها.

تُجرد المدن من معالمها، كل من روحها ورائحتها وأنفاس ناسها. تُطمس هوياتها. يمحو “الواقع” الذي حلّ بها تاريخها، مهيمنا على حاضرها، ومظلّلا على احتمالات غدها. تُصادر الأزمنة كلّها. تصادر الأماكن كلها.

تلفظنا هذه الديار كلمّا أمعنت في احتواء حكامها، وتجذّروا هم في تفاصيلها كلّها، يؤدّون دور رب ما ويصدّقون أنّنا نستحقهم ونستحق قهرهم، ونصدّق نحن أيضا.

هل القهر هو ما يولّد العجز أم أن العجز يولّد القهر؟

كم مدينة؟ كم مدينة من الماء إلى الماء؟ كم مرّة؟ كم مرّة منذ ما قبل الأنبياء؟

تلفظنا هذه الديار، وبعد عقود من التضييق والذّل والشقا و.. القهر أو الفشل، تنطفئ الروح، ومعها يولّي الشعور بالانتماء، لأي شيء، وتسقط المعاني، وننسى أن في الحياة حياة. يسيجون بالكره والجشع والموت البطيء الأماكن والأزمنة كلّها كي تسقط. فتسقط في النهاية.

ربما يجب أن نعترف: لقد فازوا. ونحن، خسرنا.

هل مازال هناك متسع للقول “نحن محكومون بالأمل”؟.

Exit mobile version