طلال سلمان

الوداع الأخير للمواطن العربي الأول:الباهي محمد

إنه نحن جميعاً: جيلنا، بإنجازاته وإخفاقاته، بطموحاته العظيمة والهزائم الشنيعة التي لحقت به، بنهمه الى المعرفة وتشوّقه لاستعادة المكانة والدور وبالمهانة التي كنا نحسها حين نكتشف اننا أصغر من أحلامنا وأن حكامنا أخطر من أعدائنا، وان العجز والجهل والتخلف والاستسلام للقمع كلها كامنة فينا تشدنا الى الخلف بينما العالم الخصم يتقدم باستمرار.
البدوي، الصحراوي، الحضري، الكاتب، القارئ، الراوية، الصحافي، الشاهد، »الشواف«، الصعلوك، الأمير، المغربي، المشرقي،
إنه المواطن العربي الاول، مع كثير من التمني ألا يكون الاخير!
لا يعرف الحدود ولا يعترف بها حتى وحراسها يحجزونه ويمنعونه دونها،
ولا يعرف الحكام بمن فيهم اولئك الذين كانوا اصدقاءه ثم خلعهم الحكم من الصداقة والوفاء، من العروبة وقضايا النضال والشعارات المقدسة.
هو »المغرب« بمشروعه الأصلي: يمتزج في تكوينه الأمير عبد الكريم الخطابي وشكيب ارسلان وعلال الفاسي والمهدي بن بركة والمحجوب بن صديق وعبد الله ابراهيم، فهو »الاستقلال« و»الاتحاد الاشتراكي« معا، هو البعثي والقومي العربي والناصري والتقدمي معاً، وهو المثقف المرتبط بالارض ولو كانت رملاً، لم يهجرها بزعم الحداثة، واستطاع ان يسكب بول فاليري في طرفة ابن العبد، وان يقرأ موليير في الجاحظ، وان يفهم رسالة الغفران للمعري في دانتي، وان يحاور المستشرقين ويصادقهم ويصحح لهم بعض اخطائهم بوصفهم »تلامذة« في مدرسته وليسوا صُنّاعاً لتاريخه او لوجدانه.
إنه المواطن العربي الاول، وقد تمتع بالامتيازات جميعا المخصصة للمواطن وللعربي، فكيف بالاول، من اضطهاد وسجن وقمع وإفقار وتشريد.
ولعله كان »يغريهم« بنفسه: أضربوني من فضلكم، لأتأكد من انكم سفلة وأولاد كلب وتمنحون بنهجكم الاستبدادي تزكية للاستعمار وجلاوزته السفاحين.
لكأن جيلنا يسير في جنازته الآن، وكأننا ننعي انفسنا فيه،
لقد مات دون أبسط أحلامه. ولعله مات لأنها هجرته أو لم يعد يقوى على حملها والتشرد بها على قارعة الهزيمة المتمادية.
في مجال التحية أستذكر تلك الحكاية التي طالما استمتع بروايتها.. قال الباهي محمد: » كنت في الدار البيضاء عشية وصول جمال عبد الناصر في زيارته لها في اوائل الستينات (1963، على الأرجح)… ولاحظنا حركة غريبة في المدينة المكتظة بالقصور والفقراء والمكاتب وأكواخ الصفيح. كان البشر يملأون الشوارع جميعا. بل ان بعضهم »حجز« سلفا بعض السطوح والاشجار وأعمدة الهاتف والكهرباء.
»تحوّل الميناء وما جاوره، بكل امتداداته، الى كتلة بشرية يستحيل اختراقها، فعبد الناصر كان قادما على ذلك اليخت العتيق والأليف والذي غدا عائليا، »الحرية«.
»كنت اتسكع بين الجموع كعادتي. فجأة لمحت بعض اهلي وقد أتوا من »العيون« والساقية الحمراء في الصحراء الغربية. تقدمت منهم، فإذا بينهم شيخ القبيلة الكبرى في منطقتنا. وسألته عفويا: ماذا جاء بك يا الشيخ؟!
»قال الشيخ: جئت أقابل جمال عبد الناصر. اننا نكاد نموت عطشا، وقد جئت لأشكو له الشح في المياه…
»صعقت لبساطة عرضه، ولما أفقت من دهشتي سألته:
» وما دخل جمال عبد الناصر في امر المياه عندك في الصحراء، يا الشيخ؟!
»بدا على الشيخ انه لم يفهم سبب دهشتي،وقال ببساطته ذاتها:
» كيف، أليس جمال عبد الناصر هو شيخ مشايخ العرب جميعا؟! انه مسؤول عنا وعن كل شيء. هيا خذني اليه…«.
… وعندما ذهب كل شيخ ببعض العرب في طريق مختلف، وذهب شيوخ آخرون ببعض العرب الى الحرب مع بعضهم الآخر، وارتحل مشايخ شاردون الى »العدو«، ولم يعد للشيوخ من ضابط، وهامت القبائل على وجهها في صحراء التيه والغربة وافتقاد الهوية والمعنى، دارى الباهي محمد غيبته، فنزل عن شجرة الحياة و»غاب« كعادته، فجأة، وراء هدف لا يُرى وقد يباغتنا حضوره فيه بعد حين.
لعله قد اختار اسمه فجعله مفتوحا تمكن الاضافة اليه حتى يتجمع فيه الجيل كله، او من تبقى من »المواطنين العرب« على مواطنيتهم والعروبة.
والآن فلنسرع الى الجنازة الجماعية، قبل ان يمد لنا الباهي لسانه!
طلال سلمان

Exit mobile version