لا مفر من الانسحاب من لبنان، ولو مؤقتاً. لا جديد البتة. الضرب في الميت حرام. يحصل ذلك، متواكباً، مع حزن وقهر وشبه استسلام. كأن لا شفاء لهذا البلد. نقطة على السطر.
نفتح الخريطة الشرق أوسطية، نتأملها، نتفحصها، نقرأها، نفكر فيها، نجد أننا غير موجودين. القوى الثلاث البارزة بفعالية في المنطقة، ثلاث: إيران، إسرائيل وتركيا… أين العرب؟ القوى العظمى الإقليمية، ترسم خطوط التداخل والتناحر. وغير بعيد عن ذلك أبداً، استتباب حالة الهيمنة الأميركية بلا منازع، للشرق الأوسط بكامله، باستثناء إيران، لأنها تبقى، القوة الاستراتيجية الساحقة، ولا ينازعها أحد. الصين تقرع أبواب أفريقيا، روسيا تحاول، تركيا لم تحلم بالدور وترسم خطوطه. ورجب طيب أردوغان، يسعى إلى إرضاء “النيوعثمانيين”، الحالمين بعودة النفوذ والسطوة في دائرة تتسع أوروبياً وشرق أوسطياً وافريقياً. ولا يستبعد أن ينشأ تحالف استراتيجي أميركي- إسرائيلي- تركي- خليجي. “الهلال الشيعي”، من اليمن، إلى العراق، إلى سوريا، إلى لبنان، إلى فصائل فللسطينية، وحده، يقف متحدياُ، ممانعاً، حجر عثرة فقط، بانتظار الحسم الفلسطيني المؤجل، المراهن على حرب حاسمة، تزول فيه “إسرائيل”، وهذا أمر لا يمس “إسرائيل” وحدها. بل يصل إلى تقليم أظافر الولايات المتحدة في المنطقة. وهذا صعب المنال.
أين العرب؟ لا تسأل. الحراك العربي مصاب بالهلوسة الدينية والافتتان المذهبي. إنما، حلف العرب الضعفاء يستقوي بالتآخي العبري- العربي.
سوريا ملعب لا لاعب. العراق ساحات لا دولة. (كردستان آمنة جداً. دولة عن جد. ضمانتها أميركية- إسرائيلية). دول الخليج و إماراتها، تسير بهدى “اتفاقات ابراهام”. هذا الاتفاق السخي جداً، دفن الصراع العربي الإسرائيلي. خلص. لقد قلبت الصفحة بالتدرج. ما حصل في الخرطوم، بعد نكسة حزيران، تم محوُه. كانت الهزيمة فاتحة الهزائم الكبرى. عدم الاعتراف باسرائيل، ومنع أي محادثات ومفاوضات معها، صارت ذكريات منسية. الولايات المتحدة وأوروبا (مدعية حقوق الإنسان) والدول العظمى، تخلت، ليس عن فلسطين فقط، بل عن الشعب الفلسطيني. الجرائم المرتكبة إسرائيلياً، اما مبررة، أو ضرورية، أو لا بد منها. منظمات حقوق الإنسان معنية بالإنسان الإسرائيلي.
إن تاريخاً جديداً، بدأت كتابته بجدارة. في الثامن من آذار 2021، اخترقت الأجواء العربية والشرق أوسطية، طائرات أميركية عسكرية، إلى جانب طائرات أف 16، إسرائيلية وسعودية وقطرية. يومها، أعلن البنتاغون إنها مناورة أميركية، إسرائيلية، عربية.
التطبيع مع “إسرائيل”، أثار شهية الأنظمة من المحيط إلى الخليج. الاستثناءات التي لم تصطف، مشغولة بدمائها ومشاكلها. العراق يعيش على حافة الفتن. فلسسطين غادرته. سوريا تتعرض لعقوبات جوية إسرائيلية اسببوعياً. كأن شيئاً لم يكن. لبنان، وحده، برغم نزاعاته وصراعاته المعيشية، ما يزال يرفع اصبعه، وتخشاه تل أبيب.
بيروت، مشتاقة للسياح اللخليجيين. لا مشكلة. الطريق إلى “إسرائيل” مفتوحة. مئات آلاف الاعراب، هم في حالة ذهاب واياب إلى “إسرائيل”. فلسطين ممنوعة خليجياً. ممنوعة تعني فرض الصمت على من منها أو من يواليها. فلسطين خلصت عندهم. والإسرائيلي مرحب به. والابرز، أن الإمارات العربية، ستوظف رساميل هائلة، لتصبح شريكاً في الانتاج، في الصناعات “السوبر حديثة”.
مصر، لا تسمع صوتها. دولة كبرى تمارس الاسكات على شعبها والصمت ازاء ما يحصل في “إسرائيل”. غزة محاصرة إسرائيلياً ومصرياً. جنون هذا. لم يحدث مثله في التاريخ. السودان، يرقص على حبال الوصل مع اندلس الصهيونية. المغرب، الحصن المنيع من بوابة جبل طارق.
باختصار، العروبة أفلست، ثم جثت على جبهتها، ثم أصبحت في خنصر شايلوك الإسرائيلي.
هذا وصف واقعي، إنما السؤال: لماذا حصل ذلك وكيف؟
واضح أن العروبة لم تكن شعاراً فقط، بل كانت مشروعاً قومياً، عابراً للكيانات. وقد استطاعت هذه العروبة الطبيعية والعقائدية أن تحزَّب بشغف شعبي، بلغ حد التأثير على الأجهزة العسكرية العربية، التي تولى قيادتها، قوميون عرب، برتب بكباشي، وجنرال، وعقيد و… تسلموا السلطة، وعنوان انقلاباتهم: فلسطين. الناصرية غزت دولاً عربية كثيرة. أقلقت أنظمة الامارات والممالك، وخافها الغرب وقاتلها. العدوان على السويس ومصر، كان الفاتحة. طبعاً، تحالف الغرب مع “إسرائيل”. وفازت “إسرائيل” بجائزة المشاركة في قصف مدن القنال. كان من المفترض أن تترسخ العروبة النضالية والشعبية. لم يحصل ذلك. اختلف القادة القوميون. تناحروا. تقاتلوا. لم يتفقوا إلا على الفرقة ولم يمارسوا إلا التآمر… حجر الزاوية العربي اختفى.
رسخ الغرب، “إسرائيل” يهودية، وإسرائيليات عربية. وهي كلها تسير بهدى وأوامر ومصالح الغرب. الثقافة المصاحبة هي ثقافة الاستهلاك. ثقافة الحرمان الإنساني. ثقافة السلعة. كل القيم والأهداف، تتحول إلى سلع. يترافق ذلك، مع إعطاء هذه الأنظمة المقلقة والطاعنة والمستدامة، حرية المنع. معظم “دولنا”، من زمان التأسيس إلى يومنا هذا، رجعية، بوليسية، ضد الحرية على طول، ضد التفكير دائماً. ضد المواطن ابداً. إنها في معظمها دول ثرية، ليس بانتاجها، بل بما في بواطنها. الغرب يغض الطرف على العنف السلطوي. القمع المذهبي مسموح. تحريم الكلام فضيلة ونعمة. تحريم الفكر ضروري. إنها فلسفة قتل الإنسان وإحياء الإنسان المستهلك. شروط الاخضاع والتبعية. وهكذا. النظام المثالي للغرب، والإنسان المثالي، هو “الإنسان الببغاء”.
والبديل عن ثقافة التغيير والابداع والأنسنة والقيم، هو الإنسان المستهلك أو الإنسان الفاقد لإنسانيته. وعليه، الإنسان العربي. في بلاده (وهي ليست بلاده) انسان يشتري. لا يصنع ولا يزرع. يستورد. يتباهى بالماركات العالمية. إنهم أولاد سوق ومن الفحول كذلك.
الفحولة العربية تنام في فراش الرأسمالية الاحتكارية القاتلة، وتنجب جيوشاً من المستهلكين. وبهذا يتحول العربي إلى إنسان، يعبد حذاءه وربطة عنقه ويداوم على التبجح بآخر موضة. هذه كائنات مدعوسة.
استعاضت الأنظمة العسكرية “العروبية” عن الشعب، بالجيش وتسلحت بالأمن، ومارست قبضة مجرمة على الشعب. منعت الحرية. الحرية باتت أخطر من “إسرائيل”. تبارزت هذه الأنظمة بعدد المعتقلين السياسيين. ارتكبت جريمة تصفية كوادر فكرية ونضالية.. حولت الدول إلى سجون. الشعب ملغى. يستدعى للتصفيق. ضرب الفساد الأنظمة. ثم حصلت مصادرة السلطة في العائلة. صارت الأنظمة “الجمهورية” ملكية، عائلية. الأحزاب ممنوعة، بما فيها أحزاب: وحدة، حرية، اشتراكية.
أين فلسطين؟
المقاومة الفلسطينية، برغم تحدياتها، وجدت نفسها مطرودة من كل دول الجوار. اختاروا لها مأوى في تونس. عادت إلى الارض بعد انتفاضة الحجارة. الباسل الفلسطيني، تخلى عن وهم “العروبة”. صار “الأمر لي”. هو هناك وسيظل هناك، ولا يلتفت إلى تصفيق الأنظمة الاستهلاكي… ولكن الفلسطيني وحده لم يحقق إلا الشهادة، وهي أرقى السياسات على الاطلاق- الفلسطيني صار في حمى المقاومة، التي أتاح لها الإسلام السياسي الجهادي الاستمرار في الصمود والرفض، من دون تحقيق أي نتائج يمكن البناء عليها. الشعار الوحيد الباقي والصامد: “نحن هنا ولن نتنازل”. وهذا كافٍ حتى الآن. عنوان غزة الصمود. عنوان الفلسطيني المقاومة، ولو باللحم الحي. لا قداسة تعلو قداسة المقاومة الفلسطينية.
هل يحسب لهذا الوضع أي تغيير في الاستراتيجيات الدولية والانحرافات العربية؟؟! التاريخ القادم سينطق بالحكم.
أي تاريخ غداً؟
الجواب صعب. دعنا نتلمس قوى المرحلة الراهنة. “القوس الشيعي”، ينتصب في فضاء المشرق. يمتد من اليمن “الحوثي” إلى البحرين. إلى العراق إلى سوريا إلى لبنان، والتصويب دائماً، على “إسرائيل”. “إسرائيل عدو مطلق”. إيران، تنصب شباكها العسكرية، عبر قوى مقاومة. إيران تتعاطى السياسة من خلال قاعدة الأقوى يفوز. لا قوة عسكرية كلاسيكية، توازي قوى المقاومة التي تسلحت بسلاح متطور، معاصر، مناسب، يوازن ويخيف “إسرائيل”. ترتقي المقاومة اللبنانية في لبنان إلى مستوى استراتيجي اقليمي. هل تخاف “إسرائيل” هذه القوة. طبعاً. ولكنها تملك مفاتيح جهنم. الحرب هلاكها وخلاصها. فأيهما تصيب؟
استراتيجياً، إيران دولة اقليمية عظمى، تحاول أميركا تجريدها من طاقاتها. تحاصرها. تخاصمها. تشن عليها حملات مستدامة، يستهدفها العرب- السنة (ليس كلهم. كثيرون من أهل السنة ما زالوا مرابطين مع فلسطين).
أي مستقبل للبنان؟ لا اعرف. وحدها المقاومة مطمئنة ولو ذاب لبنان كشعب ودولة. غزة كذلك. سوريا لا تستطيع الاستقلال والاستقالة من القوس الشيعي. العراق كذلك، برغم الصراع الداخلي المرير. اللبننة تجتاح المنطقة.
ماذا بعد؟
من الرواسخ الثابتة حتى الآن، ما يلي:
- حلف عربي سني مع “إسرائيل”. تتويجاً لصفقة “ابراهام”. حلف مدعوم أميركياً وغربياً. الأنظمة التي لم تطلب بعد إذناً بالدخول في هذا الحلف، في فمها ماء. ليس عندها إلا خيار القمع. لذا، ليس الفلسطيني وحده تحت الاحتلال، الشعوب العربية تحت الاحتلال السياسي والأمني. بعناية أميركية.
- حلف إيراني راسخ، ثبت أنه المتحرك والقوي والصامد والوازن. الجبهتان على تماس آني ومعارك مؤجلة. “إسرائيل” لن تتنازل، وإيران كذلك. إيران قطب دولي. لم تقوَ عليها أميركا ومعها الغرب.
- حرب المئة عام القادمة بين “السنة” و”الشيعة”. العداء مستحكم. قديم. تم تحديثه. فضلت السنية السياسية “إسرائيل” على فلسطين.
السؤال الأخير:
العالم على حافة تغيرات غير مسبوقة. العالم القادم لا يشبه ما سبقه. الثورة التكنولوجية. الرأسمالية الاجتياحية، الغزو العلني بالسلع للأسواق. اعدام الانتاج لدول رخوة (كالدول العربية) الخ… كل ذلك يعني أن مطحنة الراسمالية ستصل إلى كل الاسواق. الرأسمال عاصمته الاسواق. عملته السلعة… الأخلاق، مضادة لثقافة الاستهلاك. صدقوا جيداً. الدولار هو العلة. الباقون اقل منه تأثيراً وقيمة… قيل في الإنجيل:”لا تعبدوا ربين، الله والمال”. آية لم ينفذها أحد. المال هو الأب والإبن والروح القدس، آمين… لا تفتشوا في الديانات السماوية عن جواب.
هل سيزول العرب؟ ولمصلحة من؟
“إسرائيل” تراهن على تديين ومذهبة الدول العربية. التدين والتمذهب يقتلان الدولة. نحن أمام عقود من الصراع السني-الشيعي. هل أبالغ؟ لا. حجتي أن تاريخ الصراع السني-الشيعي يعود إلى موقعة التحكيم، واستئثار الأمويين بالخلافة، واصطفاف السنة معهم، وخروج الشيعة والخوارج على ذلك.
ما علاقة ذلك الزمن بهذا الزمن. الأزمنة الدينية راسخة، وستظل كذلك، إلى يوم يتم فيها طرد الأديان من السياسة، كما فعلت أوروبا منذ مئة وعشرين عاماً، وأكثر قليلاً.
أخيراً، وداعاً لبنان.
لا أجرؤ على القول: إلى اللقاء، ولو بعد فوات الأوان.