لا يملك الصحافي العربي من ادوات المعرفة، في هذه المرحلة، غير الأسئلة!
لكن كنوز الاسئلة التي تحرمه هناء حياته لا تشفع له لدى قارئه الذي يحاسبه بقسوة على قصوره او تقصيره في توفير الاجوبة (التي تشفي الغليل)، او على دقة ما يجتهد في الوصول اليه، او على نقص النزاهة في »مواقفه« التي يستخدمها كبدل عن ضائع، في انتظار اكتشاف الأجوبة المنشودة.
في صدر كل منا، وعلى سن قلمه، طوفان من الأسئلة النابعة من مسلسل الانهيارات التي تهز الكون، والتي تبدل تاريخه وتعدل في ارضه وهويتها وكياناتها وعلائقها السياسية جذرياً.
ان الثوابت تتهاوى وتتحطم، والعقائد والايديولوجيات تخلي المسرح لبرغماتية »الاميركي البشع« الذي يلبس الآن قناع »المحرر«، والقوميات والوطنيات تتراجع مدحورة امام المشروع الامبراطوري الاسرائيلي مفسحة امامه في المجال لتحوير او تغيير جذري في خريطة الوطن العربي بما يقربه من صورة »الشرق الاوسط الجديد« كما يرسمه الخيال الصهيوني.
لم يعد تعبير »العالم القديم« يعني الماضي البعيد الذي كاد يخرج من التاريخ، بل هو بات يعني ما قبل العقد الاخير من القرن العشرين.
وهذه حالة يعيشها الكتاب والصحافيون والسياسيون والقراء على حد سواء.
لكن القارئ يحاسب الصحافي، في العادة، بأقسى مما يحاسب السياسي، ربما لانه تعود ان ينظر الى السياسة في بلادنا باعتبارها المماحكات والاحقاد والاغراض الصغيرة، وليست الرؤيا والحلم والقدرة على استيلاد الحلول العملية لمشكلات الحياة وابتداع اسباب التطور والتقدم لحاقاً بالعصر.
ويحاسب القارئ الكاتب عادة وكأنه مسؤول عن الكون بحكم مسؤوليته عما ينشر من اخبار وتحقيقات وتغطيات للاحداث حتى لو وقعت في القطب المتجمد الشمالي أو فوق سطح القمر.
وهو يحاسبه عادة بمعيارين مختلفين الى حد التناقض:
أ انه يريد ان يعرف منه »كل شيء عن كل شيء«، وأساساً عن »الحدث المركزي« بالتفاصيل المملة، وبحيدة مطلقة لا تدانيها شبهة التدخل.
ب ثم انه يطالبه بالموقف ومساعدته على القراءة الصحيحة للحدث ودلالاته.
ولأن الموقف »تدخل«، فالقارئ يرى في ذلك قسراً او تسويقاً لوجهة نظر معينة على حساب المهنة وأصولها.
وليس الصحافي نبياً ولا هو »بصارة« تضرب بالرمل، وبالتالي فهو ليس معصوماً عن الخطأ.
لكنه في الوقت ذاته ليس مجرد حرفي تقتصر مهمته على تنسيق الاخبار وتقديمها الى الناس في اخراج يماثل اللوحة التشكيلية جمالاً، حتى لا يزعج صباحاتهم الرمادية بأخبارها الكئيبة.
ثم ان الصحافي العربي عموماً، والصحافي خارج الغرب، (الاميركي)، يمارس مهنته في ظروف وحشية.
انه لا يمكَّن من المعرفة، ولا يطلع على المعلومات، وقد تزوَّر عليه الحقائق بما يخدم مصلحة حاكمه، ودائماً بذريعة الحرص على الامن الوطني او مصلحة الدولة او على المصالح العليا للبلاد.
انه ليس حراً في ان يسأل،
وإذا سأل فليس مضموناً ان يلقى جواباً، وقد يتلقى توبيخاً او تأنيباً او تهمة مشينة.
فإذا ما حصل على شبه جواب فلن يكون بالضرورة صحيحاً، واذا كان فيه بعض الصحة فالأرجح الا يكون كاملاً، والمؤكد انه لن يكون نزيهاً وموضوعياً.
ان مصادر المعلومات الرسمية العربية لا تكتفي بكونها لا تقول شيئاً واضحاً، ولكنها تعتم على الحقائق حتى لا تتسرب، وتعاملها كأنها متفجرات وقنابل موقوتة، وتزوِّر في الوقائع احياناً، وغالباً ما تلجأ الى صمت القبور كأقصر طريق الى التنصل من المسؤولية.
ان في الكثير مما نكتبه نقصاً في المعلومات، وهذا ما قد يؤدي الى خطأ في الاستنتاج.
ثم ان المعلومات المتاحة اما ان تكون مغرضة، او تكون ناقصة او صماء.
فالمصادر اميركية غربية اسرائيلية، اما الخطابات والبيانات الشوهاء والمعاني المبتسرة فعربية.
ان اعتمدت على الاولى لا تضمن النزاهة.
وان اعتمدت على الثانية لا تصل الى الحقيقة.
وعليك ان تجتهد دائماً لفصل المعلومة عن الغرض ولاعادة تفسير الصمت او لتخمين ما هو مضمر وغير واضح في نص التصريح العربي الرسمي.
حتى في التوثيق تواجهك المشكلة ذاتها، فالمصدر هو الاساس وليس صحيحاً بأي حال ان العدو هو مصدر الحقيقة.
كما ليس صحيحاً بالمطلق ان العرب لا يعرفون، ولو بالبداهة، مجمل الاساسيات في حياتهم.
لكن الحاكم العربي يصر على معاملة شعبه كقاصر، وبالتالي فان الصحافي في نظره هو اما شاعر بلاط واما مجرد مصور فوتوغرافي يلتقط الصور ويترك للرقيب ان يختار منها ما يناسب »ألوهية« السلطان.
لهذا، ولأسباب كثيرة اخرى، كنت، وما زلت، اخاف من جمع المقالات التي اكتبها في السفير كافتتاحيات، غالباً، في كتاب.
ذلك ان الرأي، الساخن و»المتطرف« احياناً، يغلب في هذا النمط من الكتابة الاضطرارية والمحكومة بظروفها وبالوتيرة اليومية المنهكة، على التحليل الرصين والبارد.
فمن يكتب من قلب الجرح ليس كمن يصف حالة رياضي يتسلق قمة جبل، هواية او حباً بالاكتشاف.
اننا مطالبون بأن نكتب يومياً عن احداث غير مكتملة، او عن تفاصيل ظاهرة من جبل الثلج الغائر في محيط الظلمات، وبالاستناد الى مصادر اجنبية ليست محايدة دائماً، وقد تكون مسؤولة لكنها غير معنية، وبالتالي فلا تهتم لأعداد الضحايا او لحجم الخسارة التي يمكن ان تنجم عن اغتيال فكرة او سقوط ثورة او نجاح حكم دكتاتوري في توطيد اركانه فوق جماجم شعبه.
بين دفتي هذا الكتاب مجموعة من صرخات الوجع، ومحاولات للتنبيه من مخاطر داهمة، او للتحذير من النتائج المريعة لحسابات خاطئة.
وللكتابات جميعاً مهمة التحريض على التفكير، وعلى طرح الاسئلة الموجعة على النفس، وعلى التحريض ضد الصمت والفراغ وتفرد السلطان بالتفكير والتدبير والتقرير.. والتغرير.
ولقد يكون السؤال المدخل الشرعي الى التغيير.
بارك الله في السؤال المحرم!
طلال سلمان