طلال سلمان

«النظام» في لبنان يسقط شعب

«يا جبل ما يهزك ريح»!
تمور الأرض العربية من أدنى مشرقها إلى أقصى مغربها بالثورة فلا يتبدل حرف في خطاب الطبقة السياسية في هذا الوطن الصغير، لبنان، ولا يطرأ تعديل، ولو طفيفاً على «جدول أعمالها»، وتواصل «مسيرتها» مطمئنة إلى أن «رعاياها» مستكينون في أوجارهم الطائفية والمذهبية «يتفرجون» على الانتفاضات الشعبية التي تكتب التاريخ الجديد لهذه الشعوب، ويتجرعون الحسرة: «آه… لو أننا كنا معهم!».
لا أحد يجرؤ على الحلم، مجرد الحلم، بأن نكون «مثلهم»!
يرون إلى طوفان الجماهير، التي طال عليها دهر القمع، يكتسح القصور المحصنة «بالدول»، يحاصر الطغاة الذين طالما اعتبروا أنفسهم بديلاً من شعوبهم المقهورة بالتغييب وتزوير إرادتها، فيهزهم الفرح ويتهاتفون متبادلين التبريكات، ثم يجلسون إلى الفضائيات ويتمايلون طرباً وهم يستمعون إلى هدير الجماهير في الميادين والساحات، قبل أن يدهمهم الحزن إذ ينتبهون إلى أنهم «خارج الموضوع»: لن يصل الزلزال بتداعياته الهائلة إلى الأبراج العالية لأهل الطبقة السياسية من أركان هذا النظام الفريد والذي يتبدى في هذه اللحظة وكأنه محصن ضد الزلازل والانتفاضات والثورات!
ثم يصعق هؤلاء الرعايا وهم يرون إلى نجوم الطبقة السياسية في لبنان يقفون أمام الكاميرات ليتباروا في امتداح انتفاضات الشعوب العربية من حولنا، قبل أن يندفع أصحاب الوجوه الصخرية والعيون الزجاجية إلى ادعاء أبوة هذه الانتفاضات، بزجليات لبنانية عنترية: نحن مَن حرّضهم! نحن مَن علّمهم الثورة! نحن مَن ثقّفهم بالشعارات (.. وإن كنا نسينا أن نشحن إليهم مسبقاً الشالات الحمراء والتي صيّرها نصرنا زرقاء، واللافتات بالإنكليزية والفرنسية طلباً للعدالة الدولية..).
يرفع بعضهم عقيرته ممتدحاً ثورة مصر وإصرار شعبها على إسقاط النظام، مع أنه لا يعرف من مصر إلا بعض المواقع الأثرية، ولا يعرف من شعبها أحداً سوياً، وإن كان يعرف بعض الأسوأ من أركان نظامها، لا سيما المستجدين فيه أو الطارئين عليه مؤخراً: «لا يهم أن عمر سليمان قد سقط. علاقتي مع «الجهاز»، وسأذهب إلى بديله، فأنا أتعامل مع الموقع وليس مع الشخص..».
يروي بعض آخر حكايات عن الثروات الخرافية ووجوه البذخ التي صار إليها بعض «أصدقائه» ممّن قفزوا إلى صدارة نظام الطغيان وصاروا أغنى من أمراء النفط وتجار السلاح: لا يعرف معنى الفخامة مَن لم يزر هؤلاء في قصورهم التي ابتنوها في غمضة عين، لقد جمعوا فيها العراقة البريطانية إلى الأناقة الفرنسية إلى البساطة الأميركية، إلى جانب الأبهة الفرعونية!
وتنتبه إلى أن في لبنان، وبين أركان الطبقة السياسية مَن تنطبق عليه هذه الصفات تماماً: فثمة مَن جنى أرباحاً فلكية وفي زمن قياسي من صفقات الهاتف الخلوي، ومن الاستيلاء على قلب المدينة بذريعة إعادة بنائها، ومن الكهرباء المولدة خارج الإدارة الرسمية، ومن وضع اليد على المساعدات وأموال الإغاثة التي تبرعت بها بعض الدول لنجدة مَن قدّموا أنفسهم وبيوتهم لافتداء الوطن وحمايته وصد الحرب الإسرائيلية، ومن الاستيلاء على المال العام بألف حيلة وحيلة مع انعدام الرقابة، فإذا ما توفرت انعدمت المساءلة والمحاسبة.
تنتبه إلى أن كثيراً من الأملاك العامة قد صارت ـ بسحر ساحر ـ أملاكاً خاصة، وإلى أن في كل وزارة «مذهّبة» مَن اكتشف الطريق لكي يحتكر ذهبها حارماً «الرعايا» من خدماتها حتى لا يفسدهم الدلال!
أما مع طاغية تونس وعقيلته الماسية فثمة بين أبناء الطبقة السياسية مَن نجح في أن يكون وسيطاً في بعض الصفقات، وثمة مَن استطاع أن يحظى بثقة السيدة ليلى طرابلسي فتولى بالنيابة عنها ترتيب الأمور مع بعض المصارف السويسرية وخزائنها السرية، بكل أمانة… وثمة مَن «تعهّد» حملات الترويج الإعلامي في بعض الدول الغربية والعربية، مقدماً صورة باهرة عن ديموقراطية بن علي وحدبه على رعيته والأخذ بيدها من أجل الدخول إلى العصر.
تنتبه إلى أن بين أركان هذه الطبقة السياسية مَن أفاد من كل طاغية ومن أي طاغية عربي، بلا تعصب، سواء مَن سقط منهم أو مَن ينتظر… مَن عزّت عليه الفرصة مع أنظمة الذهب الأسود بأمرائه وشيوخه وجد طريقه إلى معمر القذافي، ومَن أضاع الطريق إلى صدام حسين وجد في «ورثته» المعوّض السخيّ، ومَن أخرجته المقادير من تونس زين العابدين وجد البديل في جزائر بوتفليقة حيث «الخير كثير والحاجة إلى الخبرات توفر فرصاً غير محدودة..
بل أنك تكتشف بين أهل هذه الطبقة السياسية في لبنان مَن أفاد من «الثوريين» و«الرجعيين» على حد سواء، محققاً بذلك «اشتراكية» فريدة في بابها… وبعض هؤلاء استطاع أن يقوم بوساطات وشفاعات لمحو إساءات والحصول على الغفران عن بعض «الأغلاط والتصرفات التي أسيء تفسيرها»، ونال المكافأة مضاعفة من الطرفين الشريكين في المعركة المصيرية اللذين لا يجوز أن تباعد بينهما هفوات أو إساءات ارتكبها بعض مَن تزعجهم وحدة الصف.
أطرف من ذلك وأدهى: أن هذه الطبقة السياسية «تشتري» المقاعد الانتخابية بفتات صفقاتها. تدفع لكل «ناخب» من الرعية مئة دولار، مرة كل أربع سنوات، وتحكمه باسم حقوق الطائفة، أو باسم
«كرامتها»، أو باسم رد التحدي الذي تشكّله الطائفة الأخرى… وهكذا تصير الديموقراطية اللبنانية «مذهّبة» في حين أنها تؤسّس لحروب أهلية لا تنتهي.
… للمناسبة فإن الحروب الأهلية هي أيضاً موضوع استثمار مجز… إنها تفتح الأقفال السرية لخزائن حكّام العسف والظلام في الأرض العربية فينهال الذهب على الطبقة السياسية إياها، مع تعديل في المواقع، أو تبديل محدود في الأسماء، فإذا النار تلتهم «الرعايا»، في المدن والقرى البعيدة!
ولعل بين مصادر أحزان الطبقة السياسية في لبنان أن الثورات والانتفاضات الشعبية التي تعيد صياغة تاريخ هذه الأرض العربية تؤمن أن الرشوة جناية، وأن الراشي والمرتشي شريكان في الخطيئة، وأنها تسعى لاستعادة الأموال المنهوبة لشعوبها التي ترزح تحت أثقال العوز والحاجة.
لكن الظروف تقضي بمداراة المزاج الشعبي العام، ومن هنا هذه المبالغة الكلامية في إظهار «التعاطف» مع الشعوب التي انتفضت فخلعت حكّام البغي والجور والنهب المنظّم.
لقد عادت الشـعوب العربية إلى ساحة الحرية،
لكن لبنان الذي يلغي نظامه العاتي شعبه المنقسم على نفسه بالأمر لن يعرف الطريق إلى الثورة أو الانتفاضة… فلكل ثورة فيه ثورة مضادة، ولكل انتفاضة انتفاضة معاكسة فإذا الشعب ضحية انقسامه وإذا نظامه المصفّح أكثر قوة وأكثر ثباتاً، وإن وفر مادة غزيرة للشعراء وكتّاب المراثي والروائيين الذين يغرفون من واقع أغرب من الخيال.
مع ذلك، سنعيش الفرح بثورات إخوتنا في أقطارهم، بأمل أن تمسّنا نارهم المقدسة، ذات يوم!

Exit mobile version