طلال سلمان

النظام الدولي في انحدار

صرنا، كلنا أو أكثرنا، نحمل الرئيس دونالد ترامب مسئولية تدهور الأوضاع الدولية بل والإقليمية. ننسى أو لعلنا نتناسى أو لا نعرف بالقدر الكافي حقيقة أن هذا الرجل ليس أكثر من متغير بين عديد المتغيرات التي نتعرف بواسطتها على نوع النظام الدولي الذي نعيش في كنفه، أو أننا ننسى أو نتناسى أنه رغم كونه رئيس الدولة التي هي القطب الأعظم في هذا النظام ففي الحقيقة هو ليس أكثر من نتيجة لنظام دولي ينحدر متسببا في تحولات هائلة أعرض لبعضها فيما يلي:
أولا: لم تعد هناك دولة عظمى تستحق هذه الصفة التي أسبغتها علي نفسها أو أسبغتها عليها ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية. كثيرون يفضلون استثناء الولايات المتحدة الأمريكية من هذا التعميم باعتبار أنها حافظت على أسبقيتها وعلى مسافة معتبرة تفصلها عن غيرها وإن فشلت في أن تحتفظ لأقرب حلفائها بمكانة الأقطاب وفشلت أيضا في تلافي عوامل انحدارها هي نفسها. انحدرت جميع الدول العظمى وبانحدارها وصعود الصين زالت صفة النظام الدولي نظاما ثنائي القطبية كما عهدناه منذ نهاية الحرب العالمية ولا كما عهدناه كنظام القطب الأحادي منذ انفراط الاتحاد السوفييتي.
كثيرون أيضا يتفقون على أن الولايات المتحدة بدأت تفقد هيمنتها بحملتها سيئة السمعة والتدبير ضد العراق ويتفقون على أن العالم يعيش من ذلك الحين في حال هي الأقرب إلى “نظام الفوضى”. لم تحقق الصين بعد أمنيتها أن تصير، ويعترف بها، قطبا ثانيا ولا حققت أوروبا الموحدة لنفسها أمنية مشابهة والسبب كما ندرك الآن يكمن في شروط وظروف قبولها وضع التبعية للقطب الأكبر في الحلف الغربي.
***
ثانيا: تزامن انحدار النظام الدولي مع انحدار كفاءة الطبقة السياسية في غالبية الدول الكبرى. شهدنا على امتداد العقود الماضية وبخاصة الأخيرة منها تراجعا حادا في أداء القيادات الحزبية في مختلف دول الغرب إلى حد دفع بها إلى التزام الأساليب الشعبوية في الحكم، شهدنا في الوقت نفسه تراجعا في معظم مؤشرات الاقتصاد والاستقرار في كثير منها ومن هذه المؤشرات الصعود المتتالي لقوة ونفوذ أحزاب اليمين المتشدد وعودة التطرف السياسي في دول عديدة.
نلاحظ مثلا عند التحليل والمتابعة أن الفوائد المترتبة على ديون بعض هذه الدول صارت تتجاوز مجمل إنفاقها على شئون ومستلزمات الدفاع في وقت تعددت مؤشرات عدم الاطمئنان إلى قدرة دول أوروبا بخاصة ودول جنوب وشرق آسيا على الدفاع عن نفسها في مواجهات صارت محتملة مع كل من الاتحاد الروسي والصين. تمتد هذه المؤشرات بشكل أو بآخر إلى الشرق الأوسط ليعود في نظر المحللين السياسيين الغربيين الإقليم القابل للانفجار الشامل في أي لحظة.
***
ثالثا: عودة لاعبين “غير رسميين” للعب أدوار شديدة التأثير في توازنات القوة وحال السلم الدولي. أشير تحديدا إلى ثلاثة أنواع لا أكثر من هؤلاء اللاعبين وهي من ناحية تكتلات التكنولوجيا المتقدمة، ومن ناحية أخرى جماعات وجمعيات المطورين العقاريين، ومن ناحية ثالثة المنظمات الصهيونية العالمية. يتراوح دور كل من هذه الأطراف بين قارة وأخرى وبين دولة كبرى منحدرة ودولة أخرى على طريق أشد انحدارا. هنا تجدر الإشارة الى أن هذه الأطراف كادت تجتمع، أو هي بالفعل مجتمعة، في الحالة الأمريكية الراهنة وبشكل أو آخر في كل من المملكة المتحدة وألمانيا. كان هذا الدور الأكثر بروزا وتهديدا للسلم العالمي والإقليمي في نشوب وتطور أهم أزمتين راهنتين وهما أزمة أوكرانيا وبشكل خاص أزمة إسرائيل-فلسطين. نلاحظ أنه في الأزمتين كان الانحدار كما تصورناه في السطور السابقة مهيمنا ودافعا ومحركا. نلاحظ أيضا وعلى بعد غير بعيد نذر أزمة ثالثة تتفاعل مكوناتها منذ شهور، وتهدد، لو انفجرت، أوضاعا عديدة في القارة الإفريقية وتؤثر حتما في مسيرة مجموعة البريكس وربما الجنوب العالمي بأسره، إنها الأزمة المتوقعة في دولة جنوب إفريقيا.
***
رابعا: لاحظنا أيضا أن الانحدار امتد ليتفاعل بقوة وفاعلية مع تطورات في المنظمة الدولية الأعظم وأقصد هيئة الأمم المتحدة. أقول وبأسف أن مجلس الأمن صار محل انتقاد شديد من دول عديدة ومن منظمات وهيئات غير حكومية تهتم بحقوق الإنسان وقضايا السلم والحرب. بل ربما وصل الأمر به إلى حال الشلل والمس بسمعة دول صاعدة مثل الصين لا تقوى على تغيير مسيرته وتحسين صورته. امتد الانحدار كما نرى إلى مختلف المنظمات والكيانات الإقليمية أبرزها الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية ومنظمة الدول الأمريكية، كلها تعاني من سلبيات تركت لتتفاقم وتنتهي إما إلى شلل تام أو في أحسن الحالات جمود في شكل كمون.
***
قناعتي تؤيد القول السائد بأنه لولا انحدار أمريكا ما عاد دونالد ترامب رئيسا لأمريكا وما استنفرت القوى المخربة فيها وفي العالم الخارجي. قناعتي تؤيد أيضا الفهم السائد في الشرق الأوسط بأنه لولا الانحدار السياسي في فكر ومنظومات القيم وفي الأداء السياسي في الإقليم ما كانت الحرب ضد فلسطين أو ما تبقى منها وما كانت الإبادة ضد من تبقى من الفلسطينيين وما كان الابتزاز المتواصل والمهين ضد السوريين واللبنانيين أو ضد سكان الجبهات السبعة التي يتفاخر نتنياهو بأنه يحارب فيها.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version