طلال سلمان

النرجسية والسادية في حكم لبنان

ألغيت السياسة في لبنان. هو حوار طرشان بين زعماء تتحكم بهم النرجسية. والنرجسية هي التباهي بالذات، والاستعلاء على الآخرين من الطبقة السياسية، والاستخفاف الكامل بالجماهير الشعبية، حتى لو كانوا من أتباع الطائفة التي ينتمي إليها النرجسي.
صاحب النرجسية لا ينظر الى نفسه في المرآة.  يخاف أن يرى وجهاً بشعاً يعبر عن روح بشعة. يكفيه أن يرى نفسه مختلف عن الآخرين متفوق عليهم وملهمهم. عادة تكون لديه حاشية من الذين يحومون حوله. هؤلاء ينظمون هدومه، وينظمون عقله. يدخلون في تفاصيل حياته وفيما يقول.  يوصلونه الى درجة اللامعقول المضحك المبكي في آن واحد. تبكي منه وتضحك عليه. أفكاره رثة معادة مكررة، كأنها مستخرجة من مستنقع راكد آسن. هم وحاشيتهم يغرفون أفكارهم من المستنقع، ليخطب صائحاً كنقيق الضفادع. يخيفهم الشلال. لا يستقون أفكارهم و”عبقرية” أدائهم من شلال أفكار متتالية ممزوجة بالأسئلة والهموم والشكوك. ألم الناس لا يعنيهم. كأنه الامبراطور نيرون ينفخ في الناي منتشياً وهو جالس على قمة تلة بينما روما تحترق من تحت. يكفيه أنه فوق. يهوى العلو ولو على….

أصحاب النرجسية، كل منهم خبيء محبسه في قصر على تلة، أو مكتب في تلافيف المدينة. عملياً، يعيش بين أوهامه. حتى الذين حوله يتحولون الى أشباح. مهمتهم إرضاء رئيسهم. لكنه لا يأبه لهم ولا لغيرهم.

كل منهم يدعي العفة. الفساد عند غيره. هو غير مضطر الى فعل شيء. لا يسجل على نفسه إنجازاً، ولو كان مفيداً للناس. هم خريجو أسوأ المواخير الطائفية. لديهم أولاد لكن نرجسيتهم تحتم عليهم اللعب بالذات. مهمتهم العلنية هي السياسة. يفضلون عليها النرجسية وشبق السلطة. من المعلوم أن السلطة مصدر للمال.
السياسة علاقة بين الحاكم والآخرين. النرجسية علاقة بين الحاكم ونفسه. عندما يعتلي سدة الحكم، غالباً ما يكون بالسياسة، والتحالفات، والركوب على ظهر الغير، لكنه يتخلى عن كل ذلك ولا يعود يرى إلا نفسه وظله. يفيض على حاشيته وحسب. كل الآخرين يصيرون في حكم لزوم ما لا يلزم. الذين لا يوافقونه الرأي، والحاشية من أصحاب الرأي يمكنهم الانصراف والابتعاد. يبقى هو في السلطة. شكلية القانون تحميه. من هو خارج السلطة منهم يحيط نفسه بهالة وكأنه في السلطة. لا يستطيع الابتعاد عن الضوء كالفراشة. الظروف التي دفعتهم الى السلطة والوجاهة، وغالبا ما تكون خارجة عن إرادتهم، تصبح تسلسلاً لتطوّر موضوعي. هم في السلطة والوجاهة بسبب حتمية التطوّر أو التاريخ. الصدفة التي جاءت به صارت حتمية تاريخية. وجوده في السلطة ضرورة للمجتمع. وجود المجتمع ذاته ليس ضروريا إلا كي يجسّد زعامته. هم ضرورة لمجتمعهم. أفكارهم، ونادراً ما لديهم ما يفوق السذاجة، هي ما يجب أن يتبناه الغير وإلا إتهم بالخيانة. اتصالهم بدول كبرى وبالسفارات لا ضير فيه، لأن هذه السفارات مرضي عنها. ولأنهم من معدن الصفاء والوفاء، بحيث لا تكون في سلوكهم شائبة. هم دائما لديهم صفة البريء المنقذ. الغير، ممن يملكون أفكاراً خطرة، هم موضع الشبهة والعمالة؛ يتصلون بسفارات أخرى غير مرضي عنها. ينقسم المجتمع الى موالٍ وعدو، الى وطني ومتهم، الى حر ومدان.

الحاكم النرجسي لديه دائما قضية كبرى: الوطن، الله، المجتمع، العائلة. هو يعيش، يتظاهر بذلك، في سبيل قضية. غيره أصحاب قضايا صغرى. يتكلم بتهكم وسخرية عن قضايا المعيشة  أو انهيار بناء أو حتى انهيار منطقة بكاملها. تلك مسائل يومية ليست قضايا كبرى. قضايا الماء، والكهرباء، وغلاء الأسعار، والفقر، والجوع موجودة، لأن المعارضة وضعوا العصي في الدواليب، أو لأن من سبقه ملأ الدنيا فساداً. نحتاج الى زمن قيادته الحكيمة. يأتي النرجسي محملاً بالوعود. لا يضع برنامجاً لحلول من أي نوع كان. لا وجود لبرنامج يضعه المختصون ويناقشه العامة. خطبه تكفي. عندما تتحدث عن جماعته وشخصه لا تستطيع الحديث عن برنامج عمل للدولة. ليس لديه برنامج عمل. خطبه تكفي. يلقي الخطب. لا يناقشها مع الآخرين أو مع العامة. على العامة أن يتبادلوا الحديث فيها، ويميزوا بين خطبة قيلت في يوم كذا وخطبة أخرى قيلت في يوم آخر. يجعل خطبه متتابعة. يختلق الفرص كي يلقي الخطب لأنه يعتقد أنه بذلك يشد عصب جماعته. خطبه طقوس تضاف الى الطقوس الموجودة والمكررة بكثرة سنوياً لإعادة تشكيل الجماعة التي تتبعه، ولترويضها.

لا مجال عنده للسياسة. هي دائما أسلوب حوار وتسويات وتراكم تسويات. لا يؤمن بكل ذلك. هو دائما في مواجهة. على الفريق الآخر أن ينكسر. المناقشة الوحيدة هي تعليم الفريق المضاد كيف ينكسر. إن لم يكن بالكلام المباشر، فهناك القضاء، وأجهزة الدولة حاضرة دائماً. الجديد عندنا أن القضاء، في بعض نواحيه، حل في عمله مكان الأجهزة. الأجهزة عادة تتعقّب. مهمتها أن تتعقّب كي تكشف الخلل. القانون يخولها ذلك. القضاء غير مخوّل بالنظر إلا بما يرد إليه. القضاء في زمن النرجسيين يتعقب. يستدعي من يشاء، حتى لو كانت الوشاية كاذبة. لا يتحقق من الوشاية. همه جلب الناس الى القضاء. شهود يصيرون متهمين. إلقاء الرهبة في قلوب المواطنين. كل منهم معرّض لاستدعاء القضاء. وهذا يعمل كجهاز أمني. صارت القضايا التي يلاحقها القضاء ربما أكثر من القضايا التي تلاحقها أجهزة الأمن. أمن بالقضاء. هذه طريقة عمل النظام في ظل الحكام النرجسيين. بالطبع القضايا الكبرى مثل تدمير بيروت يتعثّر القضاء فيها، أو هكذا يشبّه لنا. الغوص في التحقيقات ربما يصل الى فاعلين حقيقيين، وذوي قوة وسلطان غير معلن، من حلفاء أو غير حلفاء. قضايا من هذا النوع دائما تصل الى طريق مسدود. الحل النرجسي هو بتغيير القضاة للبدء من جديد. دائماً يبدأون من جديد كي تطول مدة البحث والتقصي علّ الناس أن ينسوا مصائبهم. النرجسي وصولي انتهازي الى أبعد الحدود. هناك خطوط حمر لا يتجاوزها. كل الكبار المشهود لهم بنهب الدولة وارتكاب الجرائم من أي نوع- بما فيها القتل العمد، والتفجيرات، والتهريب، أو بكل بساطة تحويل مال الدولة الى حساباتهم الخاصة- تحميهم الخطوط الحمر. في الأفلام الأميركية عن المافيات، هناك خطوط حمر بين عائلات المافيا، إذا تجاوزها بعضهم تكون الحرب فيما بينهم، تحت أعين أجهزة الأمن والقضاء. عصابات المافيا المحلية يتزعمها من هم في سن متقدمة. لديهم الخبرة في إدارة شؤون العائلة المافياوية. من مهامهم مراعاة التجاوزات التي يمكن أن يرتكبها أتباعهم لمنع الحرب بين العصابات.
النرجسي عنده حالة مرضية. نفس بلا روح، بلا مشاعر. لا تهمه آلام الناس وأوجاعهم. لا يشعر بها. صلته مع الناس مفقودة. واحد فرد، يدور حوله الكون. يهين كرامة الآخرين مهما علا شأنهم. تحترق المدينة وتتهدم فلا يرف له جفن. يجوع الناس فلا يجزع. استنزاف موارد البلد لا يعنيه. مصادرة المصارف لأموال الضعفاء ليس على جدول أعماله. الأسوأ من كل ذلك، فراغ الدماغ من التفكير. لا تساؤل لديه. لا محاسبة للذات. لا تشكيك فيما يحدث في أيامه. هو النرجسي تجسيد لحقيقة بعينها. فكرة واحدة يكررها. كل ما هو خطأ في البلد يُعزى الى غيره، الى من يعارضه. كأن السياسة والسلطة تكونان دون معارضة. هذه تضع العصي في الدواليب وإلا كان نجاحه باهراً. نجاحه مدوي فيما نوى، أما فيما أنجز فذلك يصغر عن تناوله. ينبثق الكون من ذاته. لا تدرّج في ذاته. ظاهره باطن، وباطنه ظاهر. لا يستطيع التمييز بينهما. مثال أعلى للإنسان ذي البعد الواحد. يذكر الناس دائما بعناده، وكأنها هي الشجاعة. لا يتذكر حين انسل من حيث كان تاركاً وراءه من هو الأعز والأحب إليه. ليس مضطرا للحب. النرجسية أو الزهو بالنفس تمنعه من ذلك.

الحليف لا يقل عن ذلك استكبارا على الضعفاء. هو كائن بذاته. جماعته مكتفية، وليذهب الآخرون الى جهنم التي تنبّأ بها الحليف. لباس الرأس يوحي بالعلم والمعرفة. الخطاب مع أصبع مرفوع يشير الى غير ذلك. خطاب من وراء الشاشة محكم التقسيم. عليك أن تسمع. ما تسمعه توجيهات وأوامر. مصدر القوة فائض التعالي. ابتسامة السخرية تشي بذلك. تقسيم الخطاب  “محضر اجتماع” مسبق أو افتراضي. ليس لاجتماع سوف يحصل، انما لأوامر سوف تُطاع. مهمة الخطاب تبليغ السامعين. الكلام ليس عليه ضريبة، إذ لا اعتقاد موجود بالدولة أو بضرورة وجودها. يختصر الدولة في ذاته، يقرأ مراسم موتها. الاتصال بينه وبين الناس ذو اتجاه واحد. فاقد الشيء لا يعطيه. يعطي الأوامر وحسب. الأوامر مدعومة بالقوة. ليس قوة العقل والتفكير بل القوة المادية. الفصل بين المادة والروح ما عاد دارجاً في العلوم الوضعية. الروح مفقودة والمادة محجوزة أو مصادرة. ذات تعاني الحصر.

أما الذي تباهى بانه أب السنّة، فإن كلامه لا ينم عن كثير احترام لأمهات أهلها. منتفخ، فارغ النفس، لا يشفع فيه إلا أن من هم ضده لا يقلون أو يزيدون عنه تفاهة، وفراغ دماغ، وقلة عقل، وانعدام أخلاق. لا علاقة له بالإنسان إلا تلك الصلة المفقودة بين القرد والإنسان، في علم “النشوء والارتقاء”. ربما كان داروين يعرف أصله الذي يمت بصلة الى والد نكن له شديد المحبة والاحترام.

يا من لا يحق له وصفكم إلا بما يجلب عليه تطبيق حد القذف: كسرتمونا، دمرتم كرامتنا. لم يعد في أنفسنا إلا الخواء. لا نملك من أمرنا شيئاً. نتسوّل على أبواب المصارف ما نقتات به، وهو جزء من ودائعنا التي أمضينا العمر في تحسيكها. لا تقاس كرامة الإنسان بما يملك. نعتد بالنفس. لم يبق لنا غيرها. المصيبة أنه لم يبق في أيدينا ما يجعلنا كرماء، وقد كان الكرم من شيمنا. في الحرب الأهلية، وعلى جهتي الخندق، كانت لنا كرامتنا، كانت لنا قضية، سواء كانت محقة أم لم تكن. لم يعد لنا قضية. سلختم القضية عنا. سحبتموها من تحت جلدنا. رق العظم الذي كان لا ينكسر. جعلتمونا متسولين. الأنكى أننا صرنا مستولين على أبواب المصارف لنسحب النزر اليسير من ودائعنا. لا نطالب بما ليس لنا. لا نطالب بقروض من أموال غيرنا. نطالب بأن تعاد لنا إيداعاتنا.

السادية هي الوجه الأخر للنرجسية. شعبهم يتألم، يئن، يغرق في الفقر، يسأم من الدنيا. لا يجد له حظاً فيها. يهم بالمغادرة والهجرة. حياة بائسة. متاجر يتخانق فيها الناس على قنينة زيت. أناس ينتحرون. مع ذلك يختلف سادة البلد على تشكيل وزارة. حرب كونية على وزارة بالزائد أو أخرى بالناقص، وأزمات الشعب والمواطن تتفاقم. الوزارات عندهم ليست مواقع في مركز مسؤولية؛ هي مناصب يستفيد منها الوزير بالوكالة عن كبش الطائفة الذي عيّنه. مهما كان شكل الحكومة، سياسية، اختصاصيون، خبراء، إلا أنهم سوف يكونون أتباعاً لمن عيّنهم. الوزير المعيّن والمحسوب على كبش الطائفة سوف يعمل بما يأمره من عينه لا بما يمليه عليه ضميره.  لن يكون للاختصاص معنى، ولا مكان للسياسة. هذه أيضا تتطلّب أن يكون المسؤول أو الوزير فاعلاً، لا بما يملى عليه من الأكباش، بل بما يقول ضميره. تأتي بعد ذلك خبرته. مساكين هؤلاء الوزراء. سُلبوا حريتهم قبل أن يعينوا. كأن ثمنهم دُفع في سوق النخاسين.
السادية أن يفرحوا ويصفقوا لعذابات شعبهم. تصيبهم اللذة لآلام الآخرين. النرجسية تيه بالذات المفرغة من الروح والعقل. السادية تيه بسماع صرخات الأنين واللوعة الصادرين من جمهور الشعب. عاصمة مهدومة. يتراقصون فوق ركامها. شعب متقطّع الأوصال، يهللون لفشل ثورته، أو ما يسمونه فشل الثورة. بنظرهم، الشعب أقل من أن يستحق ثورة.
تختلفون على تشكيل حكومة أو تعيين وزير، بينما البلد ينهار ماليا واقتصاديا واجتماعيا. لا سبب للانهيارات وتآكل البنى التحتية سوى أنتم؛ إدارتكم الفاشلة. لا تريدون الشرق كما لا تريدون الغرب. تريدون شيئاً واحدا وهو نهب ما تبقى. امتلاك الأرض والسيطرة على العقل. لا مبالغة مهما تحججتم بالبرد وحر الصيف، فإن سير الأمور هو ذو اتجاه واحد. صار يراه من كان يحسن الظن. يحدث على أيديكم كل ما كنا نظن استحالته. ما لا يحدث هو كل ما كنا نتوقعه. هذا لم يكن كثيرا. على الأقل بلد ذو دولة وبعض الاستقرار. لم يبق أمل إلا عند من يريد الهجرة. لا تقولوا لنا أن ما يحدث نتيجة إهمال أو قصور في المعرفة أو تأخر في التقنية. ما يحدث هو مخطط له. الخطة محكمة. الأحداث تعرفونها أنتم. لا تكتبون لأنكم تريدون أن تبقى الخطة غير معلنة. لماذا تريدون دولة دون حكومة، وحكومة دون قوام؟ أليس لأنكم لا تريدون دولة؟ كتب أحدكم عن الوطن لا عن الدولة. وطن بدولة غير معلنة تحكمونها أنتم ومن يرثكم.
قال الأديب الفرنسي زولا في أواخر القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين: “انني أتهم”. نحن ندين.
قال أبو علاء المعري:
“إنما هذه المذاهب أسباب لجذب الدنيا الى الرؤساء.

غرض القوم متعة لا يرقون لدمع الشماء والخنساء.”

الى أن يقول:
“فانفرد ما استطعت فالقائل الصادق يضحي ثقلا على الجلساء”.

ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق

Exit mobile version