ليس في الأمر أصوليات دينية تتصارع وتتحاور في مجال متحيّز، بل هي النازية الجديدة في الغرب. لا على أطراف المجتمع العالمي بل في مراكزه الأساسية، خاصة الجامعات ومراكز التفكير.
إذا أمعنّا في التشبيه، تكون إسرائيل هي “الغستابو” (القوة الضاربة)، مع محاكم التفتيش في الكونغرس، والمحرقة في غزة، ومحاكم التفتيش في جامعات الغرب الأعرق. كل ذلك إضافة الى سيطرة كاملة على وسائل الإعلام. لا تنتشر الأخبار الحقيقية إلا عبر وسائل التواصل الإجتماعي.
المحرقة، قال أحد وزراء إسرائيل، هي في غزة التي يجب أن يُباد الحجر والبشر فيها حتى تصير مكاناً لا يمكن العيش فيه. نازية صهيونية تنتقل من السعي والسيطرة على الشعوب الأدنى في سلم اعتبارهم، إلى إبادة هؤلاء وجعل أرضهم غير قابلة للحياة البشرية، مع استخدام مياه البحر لإحداث طوفان في الأنفاق وصولاً إلى استعمال القوة الحرارية (نووية؟) لتدميرها.
ليس في الأمر مبالغة. يُمنع ارتداء ما يشير الى دعم فلسطين. يُحتفل بالجثث الفلسطينية لبيع أثواب على الموضة، والأهم منع التظاهر، وإقالة رؤساء الجامعات الذين يسمحون بذلك، وتأليف لجان (محاكم تفتيش) للبحث عن ضحايا يتهمون باللاسامية والإرهاب ونقد دولة إسرائيل. أصبح نقد إسرائيل ارتكاباً للخطيئة الكبرى. أنت في بلد غربي، تستطيع انتقاد البلد الذي أنت منه وحكّامه، لكنك لا تستطيع انتقاد إسرائيل. فهي من مقدسات النازية الجديدة. في الغرب كله محاكم تفتيش جاهزة لاتهام أي كان/كانت، بتهمة العداء للسامية أو الإرهاب. معاداة السامية هي التهمة الأشنع والأكثر خطراً. ولا يُؤخذ بالاعتبار أن التعبير اخترع في أواخر القرن الثامن عشر في أوروبا، وأن العرب حسب التصنيف هم ساميون. محكمة التفتيش العليا هي الكونغرس الأميركي، يتبعها قادة أوروبا كالنعاج.
الإعلام الرسمي، من محطات تلفزيونية وإذاعية وبلاغات حكومية، يُخفي الحقيقة. وعندما تظهر علينا بأنصاف حقائق تبدو وظيفتها إخفاء الحقائق. نصف الحقائق أيضاً كذب. وما ينقل الأخبار الصحيحة عبر الأثير هي وسائل التواصل الإجتماعي. صارت الماكينة الذكية التي تحملها في جيبك سلاح الحقيقة حول العالم. كم من مظاهرة حول العالم، خاصة في الغرب الرأسمالي، بلغت من ضخامتها ما لم نكن نشهده في السابق. هذا بينما مقدمو البرامج على المحطات التلفزيونية مشغولون بسؤال من لا يروق لهم “أجب بنعم أو لا”. الحوار مقطوع. الامبراطورية الأميركية هي المركز الأهم للنازية الجديدة، وإسرائيل بأعمالها النازية تعمل لديها، وتدعمها أصولية مسيحانية صهيونية، تسيطر على كل مصادر التمويل، وتقبض على المجتمع ومؤسسة الحكم الأميركية من رقبتهما.
ما حدث مع رؤساء أهم الجامعات الأميركية (هارفرد، جامعة بنسلفانيا، معهد ماساشوستس للتكنولوجيا) مؤشر على صعود النازية مع صيرورة الكونغرس الأميركي كأحد محاكم التفتيش. لم يعد أمام رؤساء الجامعات سوى الإجابة على أسئلة معروفة بنعم أو لا. إن لم يكن الجواب يروق للسامع يُطرد المجيب من منصبه فوراً، بعد أن ينقطع التمويل من أرباب المال الذين، سواء كانوا من اليهود أو غيرهم، يُنصبّون أنفسهم أشد الداعمين لصهيونية إسرائيل وقداستها الجديدة. إذ هي الموجّه الأساسي لمحاكم التفتيش والقوى المالية التي تسيطر عليها. صارت جثث أبناء غزة، بما فيهم الأطفال، وسيلة للدعاية لما تطرحه دور الأزياء الغربية من أزياء جديدة لمن تقدم في العمر. يذكرنا ما يجري في الكونغرس الأميركي بمكارثية مطلع خمسينيات وأواخر أربعينيات القرن الماضي.
ما فعلته حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 كانت إسرائيل تُكرّره على مدى العقود الماضية، منذ نشأتها، لا بل قبل ذلك. وكان عدد الضحايا من الفلسطينيين والعرب أكثر مما حصل في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
في عصر الأصوليات الدينية التي ازدهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، تراجعت السياسة، وتراجعت معها الأخلاق والثقافة. أما صعود النازية حالياً، فهو يُلغي السياسة بالمطلق. صار الحوار بنعم أو لا، حتى في الجامعات التي كانت كل واحدة منها عريناً للحوار، ورافداً من أهم روافد السياسة. إن تكميم أفواه الجامعات، وشرشحة أجهزتها التعليمية والطلابية، هو مؤشر على ما هو قادم، والذي هو أشنع وأكثر بشاعة من المكارثية القديمة. لم تعد السياسة تحمي الأخلاق، بل أصبح كلاهما في حكم الملغى أو أداة تزييف. حجب معلومات وصور، من دون استثناء محطاتنا العربية، مع فرض رأي واحد تُفبركه الصهيونية الإسرائيلية والغربية. الرأي الواحد ملاذه الاستبداد. هكذا تعودناه في أنظمتنا وفي ما كان يسمى عالماً ثالثاً. صار الرأي الواحد حالياً أداة السيطرة في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة. ما يسمى عندنا استبداداً، صار اسمه عندهم نازية جديدة. ولا حاجة لتصنيف الشعوب حسب الذكاء المتخيّل (زيفاً). لا حسب قياس الجمجمة، بل المعيار هو تأييد الصهيونية، وهي معيار الثقافة الجديدة.
غزة، بل فلسطين، محرقة النازية الجديدة، وستكون هناك محارق أخرى حول العالم. وسيمر العالم بحرب شاملة من نوع آخر، يستخدم فيها كل الأسلحة، بما فيه النووي، الذي بدأ التلويح به، وبما هو أسوأ منه.
محقٌ الذي قال إن فلسطين صارت ضمير العالم، والعرب فيه ضحية. جماهير العالم تعرف ذلك وترفض سياسات القوى المتحكمة بهذا النظام. والمستقبل رهن هذا الضمير بمواجهة النازية الجديدة.
ينشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق