طلال سلمان

«الموتمر وطني تاسيسي» كمنقذ من حرب اهلية

دخل لبنان دائرة الخطر المصيري على وحدته الوطنية ودولته وكيانه السياسي.
يعيش شعبه المنقسم إلى رعايا طوائفية مشبعة بالحقد بعضها ضد البعض الآخر قلقاً موجعاً على مستقبل أبنائه، حتى من قبل أن تنفجر سوريا بخطايا نظامها وهشاشة معارضتها «الخارجية» التي تجعلها رهينة لخطط الغير وتفقد أهليتها لأن تكون البديل أو حتى الشريك في عملية إنقاذ افتراضية.
لم تعد الانفجارات أو الاشتباكات المسلحة تفاجئ اللبنانيين إلا في موقعها واحتمالات تمددها التي تقرّر لهم أي طريق يسلكون للهرب من نارها.
اليوم طرابلس. بالأمس عكار. قبلها بعلبك ـ الهرمل. توتر في صيدا واحتقان في بيروت. قطع طرقات يفرض عليك أن تقرأ الولاءات السياسية قبل أن تختار طريقك إلى الجنوب أو إلى الجبل أو داخل البقاع فضلاً عن الطريق إلى المطار.
الدولة بلا موازنة. مؤسساتها شبه مفلسة. تكاد تستعطي أموالاً للجيش المثقل بمهمات الفصل بين الطوائف، وأحياناً الفصل بين أجنحة في الطائفة ذاتها. القضاء بلا رأس. الأمن بالتراضي. الحكومة مثقلة بخلافاتها التي تشل قدرتها على الإنجاز، أي إنجاز، في الاقتصاد أو في الاجتماع، فضلاً عن السياسة (قانون الانتخابات مثلاً).
اللبنانيون يهربون إلى أي مكان، لا يهم بعده أو قربه من «الوطن» الذي لم يعد وطناً. صارت التأشيرة عزيزة، وهي الأخرى خاضعة للسوق السوداء.. الطائفية.
تجاوز الوضع في مخاطره وانسداد أفق الحل ما عاشه اللبنانيون طوال دهور الحروب الأهلية التي امتدت عقدين بل ثلاثة، بل لعلها مستمرة، أو أنها قد تجددت لأن نارها ظلت تحت رماد التوافقات السياسية التي بُنيت على تفاهمات سياسية ألغت ما كان تبقى من ركائز الدولة الواحدة، الموحّدة.
يوم تفجّرت الحروب المحلية ـ العربية ـ الدولية في لبنان كانت المنطقة جميعاً تعيش حالة من التحوّل الجذري الذي قطع بين الماضي والحاضر وأقفل الطريق على المستقبل. تداعت حركة النهوض القومي والتحوّلات الاجتماعية تحت الشعار الاشتراكي، وبدأت العودة تدريجاً مع انتكاسة حرب تشرين إلى أفياء النفوذ الغربي، الأميركي بالمطلق هذه المرة.. خصوصاً بعدما ابتلع الحوت الاتحاد السوفياتي العظيم، وأخذ السادات مصر إلى الصلح مع إسرائيل.
صارت إسرائيل، بعد خروج العرب من ميدان الصراع طرفاً مقرراً في شؤون المنطقة ولم تعد دولة عدوة محاصرة بشعارات التحرير واستعداد الشعب الفلسطيني للمواجهة بدمه، بعدما تخلى عنه الجميع، أو أنه غادرهم بعدما يئس من نصرتهم.
صارت إسرائيل طرفاً داخلياً في مجمل أنحاء الوطن العربي.
صار السفير الأميركي في أي بلد عربي شريكاً فعلياً في القرارات السيادية إن لم يكن مصدر القرار.
صارت الطائفية أهم مرتكزات العمل السياسي، وتفرّق الشعب، في مختلف دول المشرق، لا في لبنان وحده، أيدي سبأ. صارت الشعوب طوائف ولكل طائفة رعاتها وحماتها.
تفكّكت الدول: العراق بعد لبنان، وسوريا مهددة في كيانها السياسي الآن. كذلك اليمن. كذلك ليبيا إلخ…
ولأن سوريا هي الجبهة أو الهدف الآن، وهي المركز أو الساحة المرشحة للاحتراق بنار الحرب الأهلية فقد صار للبنان أهمية أعظم كمسرح، كمعبر، كقاعدة خلفية.
وبقدر ما تتركز الجهود العربية والدولية على تفجير سوريا بالفتنة، عبر تحويل الصراع السياسي بين النظام المستعصي على الإصلاح ومعارضيه الذين لا يملكون مشروعاً وطنياً جامعاً، يتزايد الخطر على لبنان الدولة وكيانه السياسي فضلاً عن وحدة شعبه، باعتبارها الضمانة والملاذ.
[ [ [
من هنا تكتسب الدعوة التي أطلقها السيد حسن نصر الله يوم الجمعة الماضي، في ذكرى رحيل الإمام الخميني، أهمية استثنائية، لأنها تقدم رؤية شاملة ومقترحات جدية لمعالجة الوضع المأزوم والمهدد بتفجير لبنان في لظى حروب أهلية مفتوحة.
ولقد انطلق «قائد النصر» من دعوة رئيس الجمهورية أقطاب الحوار الوطني إلى التلاقي مجدداً لإكمال ما باشروه ثم تركوه معلقاً، ليس فقط إلى استئناف ذلك الحوار بل إلى تجاوزه بعقد «مؤتمر تأسيسي وطني في لبنان مثل المؤتمرات التأسيسية الجاري العمل لإنجازها في بعض الأقطار العربية».
ولقد وضع السيد حسن نصر الله الحيثيات التي توجب الدعوة إلى مثل هذا المؤتمر: «لدينا فرصة لأن نجلس سوياً ونتحدث إلى بعضنا البعض في مؤتمر تأسيسي يضم عدداً معيناً من السياسيين وأساتذة الجامعات والقضاة ورجال القانون مع عدد معين من ممثلي النقابات والعمال… مؤتمر وطني حقيقي تتمثل فيه الشرائح اللبنانية جميعاً، ليناقشوا كيف نبني دولة».
إذن فالمهم إعادة بناء الدولة، لأن ما نحن فيها ومن رعاياها يصعب اعتبارها دولة… وهي إن كانت كذلك فإنها في طور الانهيار وربما الاندثار عبر مسلسل من الحروب الأهلية التي يمكن أن تستهلك الشعب والكيان، لا سيما إذا نظرنا إلى جوارنا العربي من سوريا إلى العراق وما بعدهما وصولاً إلى اليمن حيث «الكيانات» مهددة جميعاً نتيجة لاختلال ركائز الوحدة الوطنية في كل منها.
[ [ [
لقد تمّ تقسيم البلاد، فعلياً، إلى «كانتونات» على مقاس الطوائف. بل إن ثمة تقسيماً للكانتون الواحد بين أجنحة الطائفة الواحدة، للمعتدل حصته التي تتناقص باستمرار وللمتطرف حصة مفتوحة على التعاظم.
ليست بيروت «وحدة». وليس الجبل «وحدة». ليس الشمال «وحدة». بل ليست طرابلس «وحدة». ليس البقاع «وحدة». فالغربي منه غير الشمالي و«الوسط» مسرح لصراع النفوذ بين الطوائف على عتبة الحرب الأهلية. والجبل أرض صراع، وثمة مساع حثيثة «لتقسيم» الجنوب أو القطع بين «أقاليمه» على قاعدة مذهبية.
ليست الدولة دولة فاشلة فحسب. لقد بات وجودها رمزياً. أما الحكومة فحكومات متعارضة إلى حد الغياب المؤذي لمصالح «الرعايا» الذين لم يكونوا يوماً «مواطنين».
إن ألسنة النار التي تكاد تلتهم سوريا تتمدد إلى أنحاء مختلفة من لبنان وإلى رعاياه الذين جرّبوا الحرب الأهلية التي ما زالوا يعيشون في ظلالها الوارفة، ومع ذلك يندفعون بحماسة وحشية إلى «تجديدها» وإسقاط كل ما يربط بينهم من وشائج القربى وحتميات المصير الواحد، وعلى قاعدة «نارك ولا جهنم هلي»!
ومن الصعب الافتراض بأن زعماء الطوائف سيستجيبون لدعوة السيد حسن نصر الله.. فما يهمهم من الدولة أن تبقى إقطاعات يتوزعون مغانمها حتى.. القرش الأخير!
مع ذلك، فلنأمل أن يتوقف هؤلاء القادة الأفذاذ ولو للحظات أمام هذا المقترح الحيوي الذي قد يكون مؤهلاً لاستنقاذ وحدة الشعب وبالتالي «دولته» ومحاولة تحويلها من «كيان» ـ هو بالضرورة طوائفي ـ إلى وطن لكل أبنائه.

Exit mobile version