تبدو البلاد العربية، في هذه اللحظة، مشاعاً دولياً مفتوحاً تتقاسم النفوذ فيها وعليها الدول الأقوى، غربية وشرقية، تاركة لإسرائيل أن تتحول إلى “المركز”.
وبعدما سقطت العداوة العقائدية (رأسمالية × شيوعية..) انكشف صراع المصالح، وساد النفوذ الاميركي، واستدار العديد من الانظمة العربية، بسرعة مذهلة من موسكو إلى واشنطن التي كان قد حافظ معها على خطوط مفتوحة.. فالتحوط واجب، وعندما يتبدل اتجاه الريح احفظ رأسك!
ثم كان أن تخففت روسيا من الصبغة الشيوعية وفتحت أبوابها امام “الأصدقاء القدامى” كما امام الذين خاصموها من دون أن يعرفوها.. فاذا دبلوماسيتها الحيوية، معززة بإنتاجها الكثيف من السلاح، (صواريخ بعيدة المدى تخترق القارات، وطائرات حربية تنافس أخطر ما أنتجته المصانع الاميركية) تفتح امامها الابواب المغلقة بالعقائد (المعادية للدين؟!)، والخزائن الحكومية المثقلة بالديون، فتقبل بالتبادل التجاري مع منتجاتها سواء أكانت خضاراً وفاكهة او قمحاً وغزلاً ونسيجاً او حتى القطن فور قطافه!
وهكذا فإنك في العديد من الدول العربية، لا سيما الاغنى من بينها مثل السعودية وقطر، قد تجد طائرات حربية اميركية وصواريخ بعيدة المدى روسية، كما قد تجد ذخائر وحرائر صينية وملابس فرنسية للنساء، آخر موضة.
فالعرب مستهلكون: الاغنى منهم فالغني فالفقير فالأفقر.. ولا يهتمون لمصدر البضائع طالما قد سقطت العقائـد في بورصة التجار.
ثم أن “العرب” بلا دول، بالمعنى الفعلي: لديهم حكام لهم سلطات مطلقة، وهم من يقرر أمر السلم والحرب، كما في الاقتصاد والصناعة والزراعة، بغض النظر عن معارفه وعلومه واختصاصه.. هم “الدولة” و”الدولة” هم، وهم “الشعب”، إذا اقتضت الظروف والاحوال.
في مثل هذه الدول يُغني “الاستفتاء” عن الانتخابات، ويقرر الرئيس ـ الملك (وكل الرؤساء ملوك) من يكون رئيس الحكومة والوزراء، ومن يكون النواب والسفراء والاخطر: من يكون رؤساء اجهزة المخابرات، وممنوع أن يكون هناك جهاز واحد خوفاً من أن تُغريه السلطة فيطلبها!.)
لا دولة عربية مستقلة، بغض النظر عن أناشيد الحماسة والفخر والاحتفالات الفخمة والاستعراضات العسكرية التي يتناقص أعدادها خوفاً من العسكر..
لا الدول الغنية بمصادر نفطها (الذي لا هي اكتشفته ولا هي استخرجته ولا هي تتحكم بأسعاره)، ولا الدول الفقيرة والمحتاجة، والتي يمتنع اشقاؤها الاغنياء عن نجدتها ومساعدتها ببعض النفط او الغاز وما ماثلهما، يمكن اعتبارها دولاً مستقلة… فكيف اذا كانت للدول الاجنبية قواعد عسكرية في العديد من الدول العربية، سواء نتيجة حروب النظام (كما مع عراق صدام حسين) او الحروب على النظام (كما في سوريا) او في حروب اكثر من نظام على دولة شقيقه كما في حالة اليمن مع الهجمات العسكرية بالطائرات والزوارق الحربية والمرتزقة وصولاً إلى التحالف مع “القاعدة” و”شقيقاتها” ضد تلك الدولة العريقة والفقيرة..
دون أن ننسى أن ثمة دولة عربية هي ليبيا قد أُزيلت من الوجود ويجري البحث، دولياً، في إعادة “بعثها” برغم صراع الدول العربية الغنية على وراثة القذافي والسنوسي معا (قطر ودولة الامارات)..
في التخيل، أن الوطن العربي قد عاد يغوص في مهجع الاحلام، بسبب التجارب غير الناجحة، للتوحيد بين دوله التي انشأت معظمها المصالح الاستعمارية (لا سميا في المشرق) بعد الحرب العالمية الأولى.. ويمكن هنا تعداد العراق وسوريا ولبنان والاردن (بحدودها الراهنة، وقبل “منح” فلسطين للحركة الصهيونية لتبني فوقها دولتها -“اسرائيل”-)
بالمقابل فان هذا التفتيت المتعمد لما كان يُسمى، ولو في التمني، “الوطن العربي الكبير”، “من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر”، “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالده” الخ، سيقود حتما إلى سقوط “العروبة” كعقيدة او هوية جامعة، وستعود إلى السطح ـ كما يحدث الآن ـ الأثنيات والطوائف والاعراق المختلفة، فاذا “العرب” شعب من شعوب هذه الارض التي يتقاسمونها مع الاكراد والاشوريين والسريان والأزيديين والصابئة، فضلاً عن الأرمن الذين اقتلعهم الاحتلال التركي وطردهم من بلادهم فانزلوا في بلادنا على الرحب والسعة..
ولقد تبدى ذلك بوضوح في مؤتمر أستانة لترميم الوحدة الوطنية، وبالتالي وحدة الشعب في دولته الواحدة، سوريا..
ويمكن أن نشير بسرعة إلى ما يجري الآن في الجزائر ولها، وتحريض البربر، مرة أخرى على المطالبة بالشراكة عن طريق تعديل جذري في النظام يجعله أقرب إلى فيدرالية الاعراق منه إلى نظام لدولة واحدة بشعب واحد، او بالأحرى قرر أن يكون واحداً وخاض موحداً غمار الثورة ضد الاحتلال الاستيطاني الفرنسي الذي ألغى هوية البلاد وحاول “فرنسة” شعبها.
إن الامة في خطر..
إن انظمة الحكم القائمة فيها تقاتل وحدتها، مستعينة بالاستعمار القديم والاستعمار الجديد (الامبريالية) وصولاً إلى العدو الإسرائيلي.
لقد باتت العروبة إتهاما صريحاً بالتعصب او الشوفينية او التخلف عن العصر والعيش في ظلال الماضي الذي يسكن الأحلام ولا يمكن أن يعود.. اقله كما قرأناه..
وماذا يمكن لـ”عهد التميمي” أن تفعل في فلسطين أكثر مما تفعل، واكثر مما فعل اهلها قبلها، لتؤكد عروبة بلادها، فلسطين التي ينكرها العرب تنصلاً من مسؤوليتهم ليس عنها فقط بل عن كل بلادهم “من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر”..
ام أن ذلك الشعار قد بات، هو الآخر، من الماضي؟
تنشر بالتزامن مع السفير العربي