المتابع للرئيس دونالد ترامب لا يضجر ولا يمل. أتصور أنه بدون شك ساهم في تسهيل عملية مراقبة انتقال العالم إلى طور جديد ومختلف. صحيح أنه ليس اللاعب الأفضل في هذه المرحلة من لعبة تدوير النظام الدولي ولكنه بالتأكيد اللاعب أو الطرف الأكثر تشويقا وإمتاعا. هو النموذج الأمثل للسياسي الملتزم عقيدة ونظرية القوة في السياسة الدولية والرافض تماما بل والكاره كرها مقيتا للنظرية الأخلاقية.
أتابعه بامتياز، وبخاصة بعد أن تأكدت أنه بأفعاله وأقواله اجتمع من بين من احترفوا النقد الساخر في الولايات المتحدة أشهرهم في حدة اللسان وعمق السخرية ورقي الكلمة، اجتمعوا ضده في سابقة يقال إنها الأولى في تاريخ هذا الفن الرفيع من فنون المعارضة السياسية في دول تلتزم في دساتيرها وقوانينها مبدأ حرية التعبير.
وقعت على أعمال هذه الجماعة الرائعة وأنا ساع نحو معرفة أوفر بما يدور في عقل رئيس أهم دولة في العالم، وبخاصة نحو التعرف على خططه للمستقبل، مستقبل بلاده، لأكتشف خلال سعيي أن مستقبله الشخصي يأتي عنده قبل مستقبل أي شخص أو شئ آخر. اكتشفت أيضا خلال آخر تجربة لي في هذا السعي أنني صرت أقرب كثيرا إلى المستقبل من كل مرة مارست فيها هذا السعى. أكاد، مع قليل من المبالغة، أرى المستقبل بالعين المجردة وبالتحليل الهادئ وبفهم أعمق لتفاصيل الواقع الذي نعيشه.
***
عندما نتابع الرئيس الأمريكي، نتابع حركته وأسلوبه في حكم الناس ومنظومة مبادئه وأولوياته في الحياة، نتأكد من أن أهم دوافعه على الإطلاق هي تضخيم مظاهر القوة كأداة لفرض درجة أو أخرى من الهيمنة على ” الزبون ” أو العميل أو المنافس أو الضحية أو المواطن أو حتى شريك العمل. أشفقت، أوقل أشفقت أنا وغيري، على هؤلاء الشركاء. أشفقنا بالتأكيد على آخرهم وكان رئيسة وزراء اليابان، السيدة ضعيفة البنيان خفيضة الصوت يابانية السلوك والثقافة والآداب، في مواجهة رجل في هيئة عملاق يقبض على يدها بقبضة حديدية ويهزها بعنف ويجذبها نحوه غير مبال بأنوثتها، ليذكرني بما فعله قبل أسبوعين مع شريك آخر وهو جورجيا ميلوني رئيسة وزراء إيطاليا خلال انعقاد قمة السبعة.
حتما، بمثل هذا السلوك يفرض الرئيس ترامب علاقة تبعية بين القوي والضعيف، رأيناها في عيون السيدتين وعيون رجال كلهم زعماء في بلادهم، كمقدمات تسبق أي مفاوضات ومساومات أو صراع إرادات. أحد هؤلاء الرجال الزعماء حمل معه من بلاده مضرب جولف مكسو بالذهب الخالص، رجل آخر، وهو أيضا زعيم في بلده اكتشفنا أنه مثلنا متابع للرئيس الأمريكي ومواظب على مشاهدة فريق السخرية الأمريكي، لم ينتظر زيارة لبلاده من جانب الرئيس ترامب حتى أنه جاء إلى الاجتماع الآسيوي ومعه تاج من الذهب مزود بالمجوهرات الثمينة أهداه للرئيس ترامب في حضور جميع الزعماء، استرضاء أو لعله كما قال زميلي في المتابعة، مشاطرة في السخرية. الملفت أن هذا التاج تسلمه الرئيس الأمريكي بعد أن جرت في أكثر من 2700 مدينة أمريكية مظاهرات تعلن رفض الشعب الأمريكي مساعي ومحاولات الرئيس التشبه بالملوك. انتخبوه ليكون رئيسا لجمهوريتهم لا ليكون ملكا عليهم.
***
هناك في سيول وقع اللقاء الذي انتظره الجميع، وأقصد بالجميع كل العالم. وهو اللقاء بين رئيسي الدولتين الأكبر في عالمنا المعاصر، الولايات المتحدة والصين الشعبية. لم يحاول الرئيس في بداية اللقاء استخدام العنف مع اليد الصينية التي امتدت لتصافح اليد الأمريكية التي كانت ممدودة فعلا في انتظاره. رأينا أيضا عينين صينيتين تصبان في العينيين الأمريكتين فيضا من الإرادة يعكس موقفا مسبقا معدا بثقة وصلابة. لم يظهر في اللقاء أن طرفا يحاول فرض إرادته على الآخر. كانت مساومة دبلوماسية تقليدية فرضها الرئيس الصيني. جاء الأمريكي يحمل تراجعا عن قرار فرض نسبة عالية من التعريفات الجمركية على وإردات بلاده من المنتجات الصينية وجاء الصيني يحمل إلى المزارعين الأمريكيين بشرى عودة الصين مؤقتا عن قرار وقف استيراد فول الصويا من أمريكا.
جدير بالذكر أن الرئيس الأمريكي أساء إلى جمال اللقاء ودبلوماسية المحتوى عندما حاول الكشف عن خفة ظل أصلا هي غير متوفرة في شخصيته. حدث هذا عندما استطرد الرئيس على غير المعتاد في اللقاءات المماثلة مع الصينيين قائلا “إن الرئيس الصيني مفاوض جيد، ولكن هذا غير جيد لنا”. لم يظهر على وجه الرئيس الصيني انه استعذب هذا التعليق ولا ارتاح إليه أعضاء الوفد الصيني ووفود آسيوية أخرى. أنا شخصيا بخبرة متواضعة في الدبلوماسية وجدته غير مناسب.
***
يذهب الرأي الغالب إلى مثل رأيي الشخصي وهو أن أمريكا خرجت بالتأكيد الطرف الخاسر في أول مواجهة كبرى بين الدولتين الأكبر والأقوى على الساحة الدولية. اتضح لنا ولكثير من المتابعين أن الصين لعبت بمهارة أوراقها التي استعدت بها لمواجهة عظمى اختار ترامب بنفسه زمانها ومكانها، اختار لها أن تأتي في مرحلة هي الأسوأ في مراحل تطور شعبيته داخل بلاده وأن تجري في منطقة هي الأهم على الإطلاق لكلا الطرفين ولمستقبل العلاقة بينهما.
قضت المواجهة بأن تحصل أمريكا على كميات محدودة من كنوز المعادن اللازمة لصناعات عديدة حيوية كالغواصات وبطاريات السيارات وعديد أنشطة الطاقة اللازمة لعمل معامل واستخدامات التطورات الأحدث في تقنيات الذكاء الاصطناعي وغيره. في المقابل خرجت الصين التي لم تقدم أكثر من وعد بصادرات محدودة الكميات والأنواع من المواد الخام الاستراتيجية والنادرة في أوقات تحددها بكين، وهي واثقة من أن أمريكا لن تجد بديلا لها في هذا المضمار، ومطمئنة إلى أنها، أي الصين، لن تجد صعوبة في شراء فول الصويا من دول أخرى في حال حاولت واشنطون في أي وقت حرمانها من منتجاتها الزراعية وبخاصة فول الصويا.
***
أتصور أن الرئيس ترامب ذهب إلى قمة الآبيك متمنيا لو تمكن أن يحتفظ لأمريكا بموقع الدولة الأعظم و”المهيمنة” تنفيذا لشعاره الذي جاء به إلى الحكم وهو ” استعادة عظمة أمريكا”، وفي ظني أن هذا الأمل أو الهدف خاب. لم أتصور يوما الصين قطبا أوحد مهيمنا كما كانت الولايات المتحدة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، كما أنني لم أتصور أن يوما قريبا سيأتي أرى فيه الولايات المتحدة واحدة من ثلاثة أقطاب، أو حتى تسعى لتكون قطبا بين أقطاب آخرين في نظام دولي جديد.
في ظني أيضا أن ترامب وجماعته في البيت الأبيض وخارجه سوف يعملون بأقصى جهد وإمكانيات لمنع حدوث هذا الاحتمال، يمنعونه بغرس وقيعة بعد أخرى بين الصين وروسيا. غير خاف على كل حال كثير من تحليلات علماء العلاقات الدولية الذين ينتظرون الظروف تتغير فتسمح بأن تلعب أمريكا دور الموازن بين القطبين الآخرين، أسوة بموقع “القطب الموازن” الذي احتلته ومارسته بجدارة الإمبراطورية البريطانية في ظل نظام توازن القوى في القرن التاسع عشر، النظام الأقرب شكلا من نظام الأقطاب المتعددة.
***
هل لنا نصيب معقول في هذا المستقبل؟ أقصد هل يتعين علينا الاستعداد للعب أدوار على مقاس أحجامنا وإمكاناتنا أم نعيد الكرة فننتظر لنقبل ما يفرض علينا؟
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق
