طلال سلمان

المتبارزان بالغياب العربي!

لا نعرف كيف استقبل الإسرائيليون المناظرة و»بطليها« المتواجهين أمامهم على الشاشة الصغيرة باللغة اليومية ذاتها التي أطلقتها حمى المنافسة الانتخابية،
لكننا نفترض أن كثيرù من العرب الذين كانوا يتلهفون على متابعتها لعلها تعطيهم بعض الاطمئنان إلى غدهم، قد فجعوا بغيابهم شبه المطلق عنها، اللهم كمهزومين سابقين أو حاليين أو لاحقين، وبالتالي فلا ضرورة للحديث عنهم مباشرة، وتكفي الايماءات والاشارات المعارضة!
لقد كان العرب، إلا أقلهم، ومن موقع بحت أمني، »الغائب الأكبر« عن هذه المناظرة التي قدمت وكأنها الجولة الحاسمة بين رئيس الحكومة الاسرائيلية زعيم حزب العمل شمعون بيريز وبين منافسه زعيم تجمع الليكود بنيامين نتنياهو.
ولولا هذا »الغياب العربي« بالذات لأمكن الحديث باستفاضة عن »عادية« الرجلين، فلا طرح يبهر فكريù، ولا استشراف يمكن تصنيفه استثنائيù أو واعدù للإسرائيليين أنفسهم، اللهم إلا الحديث عن المعجزة الاقتصادية الخارقة.
وفي أكثر من مرة تهاوى الزعيمان الخطيران إلى المناكفات وما يشبه الشتائم الشخصية مقدمين صورة غير مشرقة لهؤلاء الذين انتدبوا أنفسهم ومكّنتهم الظروف (العربية أولاً ثم الدولية) من أن يتصدوا لرسم مستقبل هذه المنطقة فائقة الأهمية ولادعاء الحق بقيادتها وتقرير مصيرها.
بدا الرجلان مرتاحين إلى حد ترف المباسطة في المباذل الشخصية، كالصحة البدنية لبيريز العجوز والصحة الجنسية لنتنياهو المزدهي بشبابه… ولعل هذا كان أكثر مما يطيق أي متابع عربي، بمن في ذلك أولئك الذين هرولوا إلى الصلح بأي شروط، معلنين التوبة مستغفرين عن سابق عدائهم وحماقتهم في التورط في قتال الدولة التي لا تقهر: إسرائيل!
كما بدا الرجلان مطمئنين بأكثر مما تسمح به الظروف الاستثنائية لدولة تعيش في حالة حرب مفتوحة، فهي لا تكاد تعود من حرب حتى تستعد للذهاب إلى حرب جديدة..
حتى لو كان الأمر كما وصفه شمعون بيريز: »جربنا كل الحروب، وانتصرنا في كل الحروب«، فإن ذلك التوصيف لا يقف كلية وبالمطلق عند حدود الماضي، ولا يمكن معه الجزم بأن المستقبل سيأتي خاليù من الحروب والمحاربين، وإلا فلماذا يسيطر الهاجس الأمني على الإسرائيليين جميعù، بمن فيهم المتناظران؟! ولماذا ركز كل منهما أكثر ما ركز على قدرته المتميزة في توفير الأمن وفي ضمانه وتأمين استمراره كشرط حياة لإسرائيل الجبارة كلها وليس لأطفالها والذاهبين الى التسوق يتقدمهم رعبهم؟!
حضر من العرب في المناظرة »فلسطين« كل الوقت، وحضرت سوريا بعض الوقت، وحضر الذين لم يلقوا السلاح بعد، وما زالوا يجاهدون تحت رايات »حماس« أو »الجهاد الاسلامي« أو »حزب ا”« ومن يرى رأيهم ويفعل فعلهم، وإن كان المتناظران قد »أنعما« عليهم برتبة »الإرهابيين«.
ولم تكن القدس بحاجة الى من يستحضرها، فهي أكبر من أن يستطيع أحد تغييبها أو تجاهلها أو تقزيم قضيتها بجعلها مدينة أو حيù في مدينة أو بابتناء مدينة بديلة في ظلالها،
وفي مجال القدس بالذات وجد بيريز فرصته المثلى للتباهي على هذا الوريث المترف لرواد الارهاب المنظم في إسرائيل، قبل الدولة وبعدها، فرفع عقيرته بالصلاة، مرددù بعض مزامير داوود: »لتنسني يميني أن نسيتك يا أورشليم«، لينتهي الى تذكير منافسه: »نحن الذين وحدنا القدس، وسنبقى موحدين لها..«
أما في مجال الأمن الاستراتيجي فقد وجد بيريز، أيضا، فرصة ذهبية ليفحم خصمه المستجد في مجال المماحكة السياسية: »أنا من بنى المفاعل النووي«.
»تنازل« وحيد، ومستهلك، قدمه بيريز »لجمهوره« الفلسطيني خاصة والعربي عموما هو قوله: »ان بناء المستوطنات يوقف العملية السلمية ويعيدنا الى الانتفاضة«..
اذن فمصدر الخطر هو الانتفاضة التي يطلقها او يؤججها الاستمرار في بناء المستوطنات، وليست احلام عرفات الذي اتهمه نتنياهو بأنه يمسك بيده أمن اسرائيل ومستقبل أطفالها!
خلاصة القول ان الرجلين كانا يتضاربان بأشلاء العرب: داخل فلسطين، القدس، الجولان، ثم ذلك الغياب المفجع والذي أمد المتنافسين باطمئنان عميق، في حين يعيش العرب، بمجموعهم وكل واحد منهم، في خوف غير محدود من مستقبلهم »الاسرائيلي«.
لقد كانت مناسبة للتثبت من ان حيرة الاسرائيليين امام اختيار زعيمهم المقبل لها ما يبررها فهم امام متشابهين يرددان الشعارات ذاتها ويحملان المشروع ذاته، وان اختلفت النبرة او وقع التمايز ففي بلاغة الخطاب وليس في مضمونه.
على ان الملفت ان ايا من المتنافسين المتحاقدين والمتكارهين لم يسمح لنفسه بأن يثير موضوعات قد تمس صورة اسرائيل في عيون الآخرين، او بأن يطرح مسائل قد تزيد من انقسام الاسرائيليين (ومن ذلك مثلا تغييب قضية اغتيال اسحق رابين ومن يتحمل المسؤولية وما الموقف من التيار الذي خطط ونفذ..).
اما لبنان فقد تواطأ الرجلان على تغييبه كليا برغم ان الحرب عليه ما تزال مستمرة (في واشنطن) والحرائق ما تزال مشتعلة لما تطفأ، والبيوت المنسوفة ما زالت جثثها تملأ البطاح في العديد من جنبات جبل عامل
فاسرائيل واحدة موحدة في الحرب،
واسرائيل واحدة موحدة في مفهومها الاستراتيجي للسلام،
والخلاف ينحصر في مجموعة من التفاصيل التي لا تغير شيئا في موقع العرب مستقبلا، وفي اطار اسرائيل العظمى.
وفي هذه التفاصيل يسكن بيل كلينتون ويتحرك لدعم مرشحه.. الاشتراكي، المسالم بشهادة المفاعل النووي والحروب المتواصلة وآخرها الحرب على لبنان وأجلى صورها »عرس قانا« الثاني.
المسرح خال إلا من هذين الفارسين،
وليس أمام الجمهور العربي إلا الفرجة والبكاء على ما هو فيه!
لكن المناظرة تظل كاريكاتورية إذا ما قورنت بمثيلاتها الاميركية او الفرنسية والغربية عموما.

Exit mobile version