طلال سلمان

المأزق في الشارع !

يختصر مشهد التظاهرة الشبابية أمام المجلس النيابي، أمس، جملة المآزق التي يعيشها ويعاني منها الناس في لبنان، محكومين وحكّاماً.
فكل الذين كانوا من حول المبنى ذي القبة في ساحة النجمة أو في داخله، إنما كانوا يتحرّكون في قلب المأزق السياسي ولا يجد أحدهم مخرجاً منه، بل لعل بعضهم كان يقفل أبواب المخارج المحتملة.
بداية، وصل أولئك الفتية الأغرار بشعار يخص الجميع ولا يرفضه لبناني واحد، الحرية، السيادة والاستقلال، ولكنهم مع هبوط الظلام أخرجوا سلاحهم أو شعارهم السري الذي يفرّق ولا يجمع، ويستعدي الآخرين مما يضرّ بالوحدة، ويهدّد السلم الأهلي ومعه حكماً الاستقلال والسيادة والحرية.
لقد قدموا نموذجاً على سوء استخدام الشعار الصحيح، وسوء الأداء السياسي، بدل أن يكونوا وهم ضحايا الحرب الأهلية أكثر الحريصين على السلم الأهلي الذي في ظله فقط ومع توطد أركانه في النفوس ومؤسساته في الأرض يمكن تحقيق كامل الأهداف المجيدة مثل الحرية والسيادة والاستقلال.
بدل أن يكونوا صورة للغد بدوا وكأنهم آتون من الأمس،
وبدل أن يقتحموا الأسوار للتلاقي مع أشقائهم لتحصين وحدة البلاد والنضال معاً من أجل الحريات والسيادة والاستقلال، فإنهم قد تسبّبوا في تعميق الشرخ، ووقعوا في فخ الفرز الطائفي، فادعوا ملكية هذه الشعارات النبيلة، جاعلين من العداء لسوريا شرطاً للتلاقي الوطني في حين أن هذا العداء يؤذي لبنان واللبنانيين أكثر مما يؤذي سوريا والسوريين، ولا حاجة لتجربة دموية جديدة لتأكيد هذه البديهية.
وتبدى أنهم لم يقصدوا المجلس النيابي لمطالبته بحماية الديموقراطية والحريات باعتبار تلك مهمته، بل كنوع من التحدي المموّه بخديعة صغيرة،
ثم أنهم لم يسمعوا إلا أصوات فئة من النواب الذين يتجاوزون بممارساتهم الإطار الطائفي، وقد تجنّبوا أن يلتقوا أو أن يسمعوا من نواب »الفئة الأخرى« لتكريس الانشقاق في الشعار وفي المسلك، وللإساءة أكثر فأكثر إلى المجلس النيابي كمؤسسة جامعة وكحصن للديموقراطية حتى لو ضمت نواباً غير أكفاء أو غير شعبيين أو من مواليد المصادفات السياسية القدرية.
وبالطبع فإنهم لم يرغبوا في أن يلتقوا الحكومة، مجتمعة أو فرادى، توكيداً لرفضهم المؤسسات القائمة، فأوقعوا أنفسهم في طريق مسدود: لا هم يعترفون بشرعية القائم بالأمر، ولا هم يقدرون على تغييره، بل إنهم من خلال إصرارهم على التفرد ونبذ الآخر وإدانته سلفاً ومن دون محاكمة، يضربون أية محاولة للإصلاح أو لإلزام الحكم بتعديل نهجه تحقيقاً للمطالب الشعبية المحقة.
لكأنهم جاءوا لتكريس القطيعة وليس لتجاوزها حتى في إطار جو نضالي من أجل حماية الديموقراطية والحريات العامة وفي طليعتها حق التظاهر والتعبير عن الرأي.
أما داخل المجلس فكان ثمة حكومة مرتبكة لا تعرف كيف تغادر أخطاءها بشجاعة الاعتراف بوقوعها، وتخادع في الأرقام وفي الوقائع مدعية العصمة، وتكابر في الإقرار بتسبّبها في تفاقم الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي بات من السهل استغلالها لمآرب سياسية »معادية«.
ومع أن للحكومة دائماً؟! أكثريتها المطلقة المضمونة نيابياً، فلقد كانت تتصرف بشيء من العدائية تجاه النواب الذين يتجرأون فيسألون، متسبّبة في إلحاق المزيد من الأذى بصورة المجلس وصورتها،
كذلك فهي لم تكن موحدة الرأي في مواضيع أساسية، وفي حين كانت كتلتها العظمى تدافع مرتبكة عن العديد من الارتباكات داخل المجلس، كان بعض الوزراء في الخارج يهاجمون الغباء والتردد والضعف واستغلال النفوذ، من طرف »زملائهم« في الحكومة.
وأما النواب فإذا ما استثنينا أقلية محترمة أعادت الاعتبار إلى الحياة النيابية، وإلى الديموقراطية، وقدمت نموذجا راقياً للمعارضة التي تسعى لخدمة الوطن بتصحيح نهج الحكم وترشيده، وترسيخ الحوار المسؤول حول المشكلات القائمة لإيجاد الحلول الناجعة لها، فإن أكثريتهم العددية كانت تغط في نوم عميق أو غائبة عن الوعي تنتظر أن تُغمز لترفع الأيدي فترفعها وترتاح إلى أنها أدت قسطها للعلى فتعود إلى النوم.
لم تكن المشكلة خارج المجلس النيابي فقط، بل كانت في داخله،
ولم يأت الحل من داخل المجلس، وفيه ضمناً الحكومة، فبقيت الأزمة في الخارج بل أنها قد تفاقمت حدة،
إن الشباب الذين جاءوا الى المجلس إنما حملوا مأزقهم معهم، وهم سيظلون فيه طالما ظلوا أسرى الأسطورة التي تصور سفاح الديموقراطية بطلها وقاتل التحرير على أنه المنقذ،
والحكومة في مأزق ادعاءاتها بأنها مالكة الحلول السحرية جميعاً، في حين أنها قد هرمت وباتت عاجزة عن التصدي للأزمة الخطيرة التي تعصف بالبلاد، والتي إن لم تعالج جدياً وبسرعة فإنها ستحول ريح السموم التي تعصف الآن في الشارع إلى جو مؤات تماماً للنفخ في مناخ الحرب الأهلية.
أما المجلس فإنه بحاجة إلى نواب مؤهلين وجديين ليكون الحَكَم ومانع الصواعق ومصدر الحل.
لقد سقطت التزكية والإرهاب بالتزكية في الداخل، وذهب التطرف بالعقل في الخارج، بينما يبدو الحكم وكأنه لا يعرف الى أين يسير بالبلاد.
والحل ليس في الشارع.
في الشارع الحرب… خصوصاً إذا ظل مغلقاً بالخوف أو بالشعارات الخاطئة، أو بالجمهور الذي لا يجد ملجأ يذهب إليه ليعثر على بداية حلول لمشكلاته الكثيرة والتي تزداد ضغطاً على معدته وعقله كل يوم.
والطائفية القاتلة في كل مكان، تكاد تذهب بالعقل مطلقة سراح الغرائز.
أما من وقفة لمراجعة صادقة وصارمة تحاول وقف الانهيار؟!
مَن يبادر، بدلاً من اللوم أو الاعتذار أو التذرع بخطورة المأزق؟!
مَن يخطو الخطوة الأولى نحو تصحيح المسار، وبالشجاعة المفتقدة إلا عند الدفاع عن الأخطاء؟!
الكل ينتظر مبادرة تفتح الباب لاخراج البلاد وأهلها من المأزق.
ونتمنى ألا يطول الانتظار.

Exit mobile version