طلال سلمان

الكوفيـة الأخيـرة

فقدت «الضيعة» المزيد من نكهتها، وربما من «هويتها»، مع انطواء الكوفية الأخيرة فيها: لقد انطفأ «أبو علي»، فجأة، لترحل معه مجموعة من «المواقف المميزة» والأوصاف التقديرية، مثل «النخوة» وعلو الهمّة والمبادرة إلى فعل الخير.
لم يكن «أبو علي» العزير وجيهاً، ولا متمولاً، ولا ملاّكاً كبيراً. كان واحداً من أولئك الذين ولدوا لأهل من الفلاحين، ثم انقرضت مهنة الفلاح بعدما باتت كلفة الموسم أعلى من سعر السوق، ومع ذلك، وبفضل جرأته وسرعة بديهته وحضوره الدائم، كان يحتسب بين «أهل الحل والربط» في «الضيعة»: يشارك في حل النزاعات، يهتم بالشأن البلدي إلى حد التصادم مع المقصّرين، يتصدر تظاهرات المطالبة بالحقوق الطبيعية لأهالي المنطقة المنسيين، كالماء والكهرباء وإصلاح الطرق وإعانة المزارعين…
أكثر من هذا كله: كان «أبو علي» العزير يشجع الشباب الجديد وهم يتقدمون لإنشاء النوادي الثقافية والجمعيات الأهلية، ويهتم لأمور المدارس الرسمية فينضوي في لجان الأهل، ويدور يجمع التبرعات لسداد كلفة المازوت والرسوم المدرسية عن الفقراء، مع أن أولاده الكثر خرجوا عن طاعته فلم يتابعوا التحصيل في المدرسة الرسمية.
كان حاضراً كمئذنة الجامع في ساحة البلدة، يشارك في كل عزاء، وفي كل فرح، يستقبل المرشحين للانتخابات بإقامة «امتحانات قبول» غالباً ما تنتهي بإسقاطهم. أما النواب فكان يسعد بأن يشن عليهم الحملات العنيفة لتقصيرهم وإهمالهم شؤون الناس الذين منحوهم أصواتهم.
في وداع الكوفية الأخيرة كانت «الضيعة» المحتشدة خلف نعشه تعيش لحظة حزن حقيقي على ماضيها، وعلى حاضرها أيضاً. رحمه الله.

Exit mobile version