طلال سلمان

الكسول إبراهيم سلامة وتماسيحه النشطة

كنا في مطلع الصبا حين التقينا على غير موعد.
كان ابراهيم سلامة آتيا من »نابيه«، فوق انطلياس الرحابنة وفيروز، وتحت بكفيا آل الجميل، يحمل بيده قلماً رخيصاً، وفي رأسه أفكاراً غير مألوفة، ويمتلك لساناً سليطاً وروحاً خفيفةً تجلجل لذعاتها وقفشاتها فتخفض العالي وتعيد المتعالي الى الارض.
كنا نموذجا لأبناء جيلنا، لا تتسع لنا طوائفنا وتضيق بنا مناطقنا، ونصر على البحث عن الافضل، ونرفض اليقين المعلب و»الدوغما« الأيديولوجية، ونتعصب لحقنا في ان نعرف قبل ان نقرر.
كانت الدنيا غير الدنيا، وكانت بيروت أواخر الخمسينيات تضج بالقلق العربي، بحثا عن مكانة تحت الشمس، وزعامة جمال عبد الناصر تحيي الاحلام في التحرر والتقدم والعدالة، وتنعش في النفس الايمان بالنفس وبالغد.
الوحدة في دمشق، وعبد الناصر في الجزائر واليمن، ورياح الحرية تعيد افريقيا الى التاريخ، والشيوعية المقولبة في أنظمة غير شعبية تتردد في الاعتراف بمشروعية الحركة القومية، واسرائيل تتابع نسج تحالفاتها ضد المستقبل العربي.
عشنا في قلب الصراعات جميعا، وعرفنا أطرافها مباشرة، ناقشناهم مبهورين في البداية، وافترقنا مصدومين بمعظمهم، في النتيجة،
قرأنا كثيراً، سمعنا كثيراً، كتبنا كثيراً، اصبنا قليلاً وأخطأنا كثيراً.
جال ابراهيم سلامة بين »القوميين العرب« فرأوه »شيوعياً«، وبين »الشيوعيين العرب« فرأوه »تحريفياً«، ورفضه مسيحيو الكتائب والانعزال اذ رأوا فيه خوارجياً ملتحقاً بالمسلمين والملاحدة.
واستمر ابراهيم سلامة يجتهد ويتابع رحلته بحثاً عن اليقين.
لم يستكن ولم يستسلم، وانما استخدم جبخانته الحربية، شفاهة وخطياً، مجرباً كل فنون الكتابة تقريباً: من المحاولة الشعرية الى المحاولة المسرحية، ومن الدراسة السياسية الى المقالة النقدية.
لفترة، كان ابراهيم سلامة قد تصدر قائمة الكتاب الظرفاء او الساخرين، وبات لعموده شهرة وجمهور ينتظره صباح كل يوم.
ثم.. جاءت الحرب فرمت ابراهيم سلامة في باريس،
وجاء المرض، وهمياً او فعلياً، فجاء بابراهيم من باريس إلى الشمس في قبرص.
وجاء الكسل والتبلد واليأس والقرف، فطرحت هذه جميعا ابراهيم سلامة على شاطئ الكتابة، يخاف ان يتوغل فيها فيورط نفسه، ويتردد في ان يلتزم فيُبتذَل.
»دموع التماسيح« هو »الأثر« الأدبي العاشر لابراهيم سلامة، وهو إرادة الجزء الثاني من »الله بالخير«، واستئناف للحوار بين الشخصيتين الشعبيتين اللتين »استعارهما« من الراحل الكبير اميل لحود، حول شؤون السياسة واحوال الناس.
لكن طلال حيدر يقدم للكتاب في غلافه الأخير، فيصف ابراهيم ب»السفاح«، ولا نعرف بالتالي ما يكفي عن التماسيح ودموعها.
أما ابراهيم نفسه فيقول في التقديم التوضيح:
»قد أكون آخر مسيحي يكتب باللغة العربية من أهالي المتن الشمالي. ما همّ. فأنا كفخار بلدة بيت شباب، لم ولن أنسحب أمام صناعات »النايلون« والتأمرك، وما يلي ذلك من صحون فارغة وطناجر مهترئة وهمبرغر وبيبسي، وغير ذلك وغير ذلك من تفاهات زمن اللون الواحد والإنسان المعلب.
نعم. سنظل نكتب بالحرف، وليس وراء سيقان راقصة إغرائية على شاشة بلورية.
ذلك قدرنا. وقبلناه مختارين ومحتارين وغير نادمين.
ابراهيم سلامة: أنت ايضا خفّف كسلك واكتب أكثر.

 

حين ابتعدنا عن »البهية«

نفاجَأ بالموعد برغم اننا نقبع في انتظاره صاغرين، ونكاد في لحظات الضيق وتفاقم القهر نستعجله كما يستعجله »الموعود«.
انتهى زمان اللقاء، بل هو انشق إلى زمانين: صعد اولهما إلى الذاكرة منطوياً في كلمة »كان« التي على صغرها تحتوي التواريخ والناس والدهور والأحداث، واندفع الزمان الثاني يشق طريقه في الآتي »بعد«.
لم يكن في صباح الخميس ما يخرج عن المألوف.
كان ظل الموت يرفرف، كالعادة، فوق رؤوس الأحياء ويقرئهم السلام، فلا يردون التحية، ويلتفتون إلى الناحية الأخرى مبالغين في إطلاق صيحاتهم المجلجلة ومسامراتهم ومشاجراتهم ليؤكدوا انشغالهم عنه بما هو أهم منه.
أما »هي«، فكانت قد تعبت من استدعائه واستعجاله، فأغلقت عليها قوقعة الصمت، وارتحلت عبر زرقة عينيها إلى الصفاء المطلق بعيداً عن نداءات أولادها الملتاعين، والذين لا يعرفون كيف يمنعون عنها الزائر الذي لا يُردّ.
ممددة على سريرها، متصاغرة، تصغي إلى أصوات لا نسمعها، وإن خيل إلينا أن ثمة أجنحة ترف في فضاء الغرفة الصغيرة.
على بعد ذراع، على بعد عمر، على بعد دهر، على بعد قيامة.
ما أضيق المكان، ما أقرب المدى، ما أبعد المسافة.
كيف تتسع هذه الغرفة المزدحمة بالأسماء والأعمار والحيوات والأزمنة للموت ايضاً.
مرّ خفيفاً بيننا. تخطانا جميعاً إلى مقصده. لعله لامس شعر واحدنا، لعله ربّت على خدود بعضنا، لعله تملّى في وجوهنا.. لعله لم يلحظ وجودنا، لعله ازدرانا فلم يلتفت إلى أي منا.
وحدها كانت معه. ولقد هربت منه إليه. لعلها سخرت منه، ولعله قد تضاحك من محاولاتها أن تستأخره، هي التي كانت تتعجله. لعلها عاتبته، ولعله قد اعتذر منها.
شهقت عيناها بمزيج من اللهفة والدهشة، ثم استكانت واستكان، ودوى الفراق افتراقاً بين أزمنتنا جميعاً.
امتلأنا بالرهبة. خفنا أن نصرخ. خفنا أن نقاربها. خفنا أن نلمسها فينتقل إلينا. جمّدنا الخوف على حواف سخريتها المعابثة، حتى إذا عاد تنفسها إلى الانتظام تنفسَنا جميعاً ملء الرئتين.
امتد الحوار بينهما للحظات، من جديد، لكنه كان عصبياً ومتوتراً كما تدل حركة الصدر هبوطاً وارتفاعاً.
فجأة هوى الصمت البارد فتضاءلت حتى لكأنها بعض السرير.
امتص العويل بقايا الحوار القصير والمفجع.
انصرف الموت بجلال كما جاء.
لم ينقص، في تلك الغرفة الصغيرة المزدحمة، إلاّ بعض أعمارنا، بعض صلتنا بالحياة، بعض أزماننا.
ومشينا خطوة أوسع، مبتعدين عن »البهية«، مقتربين منه.

 

رقّ الحبيب

سرى النغم متهادياً، رقراقاً، عفياً، فأسرى بنا في معارج النشوة.
رقصت داخل أخيلة الزمن الجميل، ورفت أطياف حب جديد.
الموسيقى حاضنة العشق.
والنغم أقصر مسافة بين حبين.
غبنا مخلين المساحة للشجن. يرق النور، يرق الهواء، يرق النفَس، ترق اللمسة، ترق الهمسة وتتندى متى »رق الحبيب«.
وانبثقت من قلب »الآه«، فإذا للكل بعض ملامحك. كأنك نثرت نفسك عليهم فغطيت على وجودهم واتخذت منهم بطانة.
تطلين من بين كل نقرتين على أوتار القلب المتخذ الآن شكل العود، قطرة، قطرة، ثم تنهمرين وكأن صخب العازف المحطوم بالحزن قد أيقظ فيك الرغبة المحطومة على جدار التمني.
يأخذني إليك وجع اللذة، وأستعيدك مع لذة الوجع.
وأنت في الوجعين، وأنا الباب والمهجع.
نغمة خلف نغمة تتكاملين، وتتبدين في صورتك الأصلية مصنوعة من آهتين، ويا ليل يا عين.
تلبسين الليل وأرتديك نهارا، وتتطاول المسافة بين اللقاءين، ولا غياب.
وفي الافق البعيد تغمز نجمة شاحبة بخصرها قبل ان تنسحب إلى الخدر، وتعتصر كف الهواء المثقل بالتنهدات غيمة عابرة فتنثرها علينا صباحا من رذاذ.

 

قراءة ثانية في عيون السر

تدور الحدقتان الغامقتان بزرقتهما الغامضة في قلب بحيرتَي الصفاء، ناثرتين علامات التعجب والاستفهام في فضاء الغرفة المزدحمة بالحزن وذكريات الزمن الجميل!
لكأنكِ الوحيدة التي تعرف السر، أنتِ التي لولا صراخها لما اعترف بها أبناء الحياة.
البساطة لغز.
الولادة مثل الموت بساطة، ومع ذلك يدوخ الناس وهم يحاولون فهم هذه الدورة الطبيعية التي لا تتوقف عن رميهم بألغازها المتروكة جيلاً بعد جيل للتفكير والاستنتاج والتوغل داخل غابة المعنى.
البساطة مثل عينيك مكمن السر.
نحدق فيهما ونحاول فك الطلاسم لنقرأ »المقدر« الذي يقال إنه »مكتوب« مع استحالة قراءته.
نحاول ان ندربك على الكلام حرفاً حرفاً، نقطّع اللفظة إلى نغمات، فتطالعنا في عينيك تلك الابتسامة الماكرة لتجاهل العارف، او للذي يعتصم بالصمت تحاشياً للخطأ، او حفاظاً على أمانة العهد.
يرتفع صوت مرتل القرآن: اقرأ!
ويتعاظم إحساسنا بالعجز عن القراءة بقدر ما يتعاظم شوقنا لأن نقرأ.
وأنت التحدي بوجهك المغسول بالبراءة المطلقة: اقرأ! اقرأ، اقرأ، اقرأ.
ثقيل هو العجز: كيف يجرؤ على الكتابة مَن لا يعرف القراءة؟!
… وأنتِ بحدقتيك الغامقتين الذاهبتين من الغموض الأزرق إلى بهجة المعرفة تتعابثين بنا ونحن نطويك بين الكفين، وترددين كل لحظة: اقرأ، اقرأ، اقرأ، وتكادين تعلميننا مخارج اللفظ، وتومئين إلينا بالمعنى.
أنت القراءة وكنا نظنك الكتابة.

 

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لا تعرف له مهنة غير الحب:
لا تقل أبداً: لقد اعطيت حبيبي كل شيء.
إن كان هو حبيبك فهو العطاء، وإن كنت حبيبه فأنت العطاء. الحب هو أنتما معاً ولا انقسام. يذهب الحساب بالبركة، تقول العجائز.
وقال لي »نسمة« معابثاً:
الحب اثنان، ولكنك لا تستطيع إخضاعهما للتراتب: الأول والثاني، اذا انقسما فريقين وقام بينهما حساب فتلك هي الخاتمة المفجعة لرواية هزلية، بطلاها من الهواة.
الحب حرفان. مثلنا. لا معنى إلاّ باجتماعهما، باتصالهما، باندماجهما، بتداخلهما، بتوحدهما نغماً يبدأ هامساً ثم يجلجل.

 

مثل نجمتين

لستما مثل أحد او شيء.
حلو الأيام مثلكما.
ومثلكما النصف الثاني من استدارة الحلم حين يكتمل.
تدق في صدورنا الساعات، ويقربنا الوجد من إنسانيتنا.

غد مسافر إلى غد.
ولسنا مسافرين إلى الأمس، بل نتوغل في قلب الوعد مقتربين من الإمساك بالأيام.

Exit mobile version