طلال سلمان

»الكرم« اسرائيلي في لبنان ومفارقاتة

يمكن أن ترتاح أعصاب اللبنانيين نسبياً إذا هم تابعوا المناقشات والخلافات والتعارض في الآراء بين الإسرائيليين، رسميين وقيادات سياسية، حول الانسحاب من لبنان، أكثر بكثير من »ارتياحهم« للمناقشات والمواقف والآراء رصينة أم مرتجلة التي تصدر عن مسؤوليهم وقياداتهم السياسية هنا في بيروت.
ان الانسحاب، في إسرائيل، يبدو أكثر صعوبة وأقسى وقعاً من الاحتلال نفسه، الذي كلفهم ما لا يطيقون من الخسائر، في الأرواح والمعنويات أساساً ثم في الماديات.
إنهم يدركون ويجهرون هناك بحقيقة أن الانسحاب بغير اتفاق هو هزيمة سياسية،
ومهما كانت براعة إيهود باراك في مناورته لتمويه الموجبات الفعلية للانسحاب، كالقول بأن الانسحاب بغير اتفاق يحرم سوريا (قبل لبنان) من ورقة ضغط قوية ومؤثرة جدا، ناهيك باللجوء المتأخر ربع قرن تقريبا والمباغت الى الشرعية الدولية (القرار 425) التي لم تحظ يوما بأي احترام (فضلاً عن الالتزام) في إسرائيل، فإن الحقيقة الصارخة والتي لا يمكن طمسها هي أن حكومته إنما اتخذت قرارها بالانسحاب مضطرة وتحت ضغط الخسائر الفادحة التي تلحقها المقاومة الباسلة بعسكر احتلالها في لبنان… وأن هذا القرار كان جسره إلى الانتصار والوصول إلى سدة السلطة.
تتجلى المفارقة في أوضح صورها إذا أجرينا المقارنات التالية:
1 ان المفاوضات مع سوريا قد تعثرت حتى تجمدت كليا، والسبب الظاهر أو المعلن على الأقل، ومن طرف إسرائيل، هو خلاف على بضع مئات من الأمتار، وربما عشرات من الأمتار عند الحافة الشمالية الشرقية لبحيرة طبريا.
2 ان المفاوضات مع الفلسطينيين والتي تدور في حلقة مفرغة، منذ أمد طويل، وبرغم »قمم الإنعاش« في شرم الشيخ، بعد »واي ريفر«، وبعد واشنطن الأولى والثانية والثالثة وقبل واشنطن الرابعة، لم تتقدم على الأرض خطوة واحدة، وظلت »مجرد دردشة« كما وصفها رئيس السلطة ياسر عرفات، لأن إسرائيل تساوم على كل »متر« يفترض أن تنسحب منه من أرض الضفة الغربية المحتلة، بينما ترفض أي بحث في حقوق الفلسطينيين في القدس الشرقية (فقط) وتمنعهم حتى من الاقتراب منها واتخاذ بعض ضواحيها »عاصمة« بديلة لهم، ولو من باب خداع البصر أو خداع »الجماهير«!
3 على العكس من ذلك، لا تفتأ إسرائيل تستفيد من »الوقت الضائع« لزرع المزيد من المستوطنات داخل ذلك الجزء الذي يفترض أن تمنحه للسلطة الفلسطينية، بحيث سوف تتقلص الأرض التي قد تقام فوقها »الدويلة« الفلسطينية إلى أقل من نصف مساحة الضفة الغربية، خصوصا إذا حسمت منها مساحة »القدس الكبرى«.
4 في الوقت نفسه تعلن إسرائيل عن بناء مستوطنات جديدة في هضبة الجولان السورية المحتلة، بما يعقد مسألة الانسحاب الإسرائيلي منها، مستقبلاً، وإذا ما وقعت أعجوبة إحياء المسار »الميت« حالياً للتفاوض مع سوريا.
أي ان اسرائيل تحاول »كسب« كل متر ممكن من الأرض الفلسطينية المحتلة، متجاوزة كل الاتفاقات المعقودة تحت الرعاية الأميركية، والتي تحاول مصر جاهدة ان تحمي وتغطي السلطة الفلسطينية حتى لا تتهم بمزيد من التفريط،
كذلك فهي تتشبث بكل شبر تحتله من الأرض السورية، برغم ان الوصول الى »تسوية« مع سوريا (ومعها لبنان) تكاد تشكل إقفالاً لملف الصراع العربي الإسرائيلي، أقله في طوره الراهن.
فما سر هذا الكرم الاسرائيلي مع اللبنانيين، بالمبادرة الى اقرار الانسحاب واعلان الالتزام (المباغت!) بالقرار 425، ودعوة الأمم المتحدة التي يئست من امكان تنفيذه على امتداد 22 عاماً، الى اعداد العدة لمباشرة مسؤولياتها خلال التنفيذ وبعده، ثم »استنفار« العالم كله لمساعدتها على حماية التنفيذ؟!
حققت اسرائيل نجاحا نسبيا في نقل الازمة الى الضفة الثانية من الحدود، فشغلت بها اللبنانيين ومعهم السوريين، والى حد ما الفلسطينيين، بل كل العرب، مبدلة جدول الاعمال المطروح، ومحدثة اختراقاً في المجال الدولي مسح عنها الصورة البشعة للاحتلال ليقدمها بصورة جديدة: تعرض انسحابها فيرفضون!
لكن هذا النجاح النسبي لا يبدل اساس الموضوع،
فالانسحاب بذاته نصر مؤزر للبنان والعرب،
ولكن السؤال المشروع عما بعد الانسحاب يظل معلقاً، لأنه يتجاوز الكلفة الدموية للاحتلال، ليطرح مصير »التسوية« برمتها، وتحديداً ما يتصل بلبنان منها، وبالذات ما يتصل بالوجود الفلسطيني فيه،
الانسحاب مصدر فرح،
أما ما بعد الانسحاب فسؤال معلق يولّد كل ساعة المزيد من اسباب القلق، الذي لا يخفف منه ان يكون »مشتركاً« على الضفتين،
وليس مأمولاً ان يجيئنا ما يطمئن من طرف واشنطن التي يستضيف رئيسها الذاهب قريباً رئيس الحكومة الاسرائيلية الباقي بعده والذي يحاول ان يحصل منه على الحد الأقصى من المكاسب (التي سيدفعها العرب طبعاً من أرضهم ومن مالهم) لكي يمنحه »صوته« مرتين: لزوجته في نيويورك، ولخليفته الطامع لأن يحل محله في البيت الأبيض، ليكمل »ناموسه« في تعزيز الامبراطورية الاسرائيلية واشراكها في المجال الحيوي المفتوح للهيمنة الاميركية.
على العكس… علينا ان نستعد للاسوأ،
فواشنطن، مثل تل أبيب الآن، ليست مصدراً للبشائر!

Exit mobile version