طلال سلمان

القومية

يصعب أن يكون هناك تعريف جامع مانع للقومية. كتب الكثير حول الموضوع في جميع اللغات تقريبا من دون جلاء كامل. هناك التباس بين مواضيع القومية والامة والوطن والدولة. فالقومية تتحدث عن كيان روحي للامة، له حدود جغرافية متغيرة على مدى التاريخ. القومية اساساً كيان موضوعي لا يقبع في الذات البشرية بل خارجها. هي روح خارج المجتمع تتجلى احيانا. الامة ايضاً كيان موضوعي يتنافس مع القومية. وغالباً ما يستعمل الخطباء تعبير الامة “الاسلامية والعربية” للخلاص من الالتباس من دون نجاح. اما الوطن فهو تعبير جغرافي غير محدد، وجد منذ اعماق التاريخ للدلالة على المنطقة التي ولد فيها المرء، او المنطقة التي يجب الولاء لها، او المنطقة التي لها معنى خاص في ذاته. والشعب مقولة تصف المقيمين ضمن حدود الدولة، آخذاً بالاعتبار ان في كل ذلك تنوعا سكانيا وثقافيا شديدا حتى في البلدان الاكثر اندماجاً.

المسلمون هم من ولدوا مسلمين، حين يولدون تعطى لهم الهوية الاسلامية. العروبة اعتقاد ايديولوجي. معظم الناس في المنطقة المسماة عربية يسمون عرباً. يجري ذكرهم كعرب. لا يصبحون معتنقين للقومية العربية الا عندما يفعّلون عروبتهم، بالاحرى انتماءهم العربي، سياسياً. النشاط السياسي هو ما يحوّل الانتماء العربي الى قومية عربية. هي، اي القومية، ليست كائناً غبياً يتجلى احياناً، وان خيّل للبعض انها كيان نابع من الناس في لحظات النشاط السياسي الهادف الى مطالب عربية في شمولها. الوجود العربي شيء، والانتماء العربي شيء آخر. الوجود العربي هو الخاص بهؤلاء او بمعظم هؤلاء الذين يتكلمون العربية. هم في العادة يتكلمون لهجة يصعب فهمها على العرب الساكنين في مناطق بعيدة، لكنهم جميعهم تقريباً يجيدون الفصحى بسبب الادب والقرآن. هناك اسباب قومية ودينية لتعلم الفصحى التي يفهمها الجميع بمعزل عن اللهجات المحلية. هي المعتمدة رسمياً، وهي ما تميل اليه العامية مع انتشار وسائل الاعلام ومنها الصحافة والتلفزيون. يجري استباحتها على وسائل التواصل الاجتماعي مثل التويتر واليوتيوب والواتس أب وغيرها.

وضع ستالين اربعة أسس لتعريف القومية، هي التاريخ المشترك، المصالح المشتركة، الارض المشتركة واللغة. لكننا نرى دولاً تتنوع فيها اللغات والتاريخ وتتضارب المصالح كما يراها اصحابها. الارض مشتركة اذا كانت هناك دولة هي التي تحدد جود الارض. الدولة هي المحدد الوحيد للارض. يضاف اليها عند العرب اللغة. هي لغة مشتركة يصعب الغاؤها. الوجود العربي لا الاصل تحدده اللغة وسكنى هذه البلاد، والذي يسكن هذه البلاد يتكلم العربية على الاغلب.

ثورة 2011 عمّت البلدان العربية من المحيط الى المحيط. نبض واحد ووجدان واحد. كانت المواجهات مختلفة. المنظومة العربية التي لم تسقط واجهت شعبها بالاغراءات وبالمال وبعض التنازلات السياسية احياناً، وبالحرب الاهلية في غالب الاحيان. البلدان التي سقطت والتي لم تسقط انظمتها اتجهت الى القمع على الرغم من مطالب الثورة بالحرية والعدالة الاجتماعية. المطالب التي رفعت في جميع الاحوال لم يكن فيها شعارات قديمة. يبدو عند الكثيرين ان المطلب القومي الاساسي هو الوحدة العربية. الذي لم يدركه الكثيرون ان الوحدة كمطلب هي وحدة البلدان، الدول العربية. اما وحدة الشعوب فيعبّر عنها بوحدة اللغة ووحدة الوجدان والمشاعر، وهي التي كانت بارزة في 2011.

الوجود العربي كأمة موجود، اثبت عن نفسه مرات عديدة عبر العقود السابقة. الوحدة العربية ليست مطلباً آنياً، وربما غير بعيد المدى، لأن الشعوب العربية ادركت في اعماق احساسها ووجدانها ان الوحدة مطلب مؤجل، وربما لا يتحقق الا عبر الدولة القطرية. الدولة القطرية غير شرعية لعدم قناعة شعبها بها، كما بسبب الاستبداد والفشل في التنمية.

تأخر العرب في القرن السابق عن القرن الذي سبقه في النمو الاقتصادي. المطالبة بدولة حقيقية شرعية، منغرزة في وعي مواطنيها لا يحدث الا ضمن هذه الانظمة القطرية. بناء الدولة، اية دولة، هو المطلب الاساسي. الدولة تعني الشرعية وهذا هو المطلب الاساسي لدى الشعوب العربية. النزاع بين الشعوب وانظمتها هو مطلب تحويل النظام الى دولة. اسقاط النظام ، وهو مطلب عام لدى العرب، يعني في وجهه الآخر المسكوت عنه، الدولة. تجد الانظمة العربية صعوبة، بالاحرى استحالة في ان يتحول كل منها الى دولة. الحروب الاهلية العربية الراهنة، بعد الـ 2011 ، هي حروب بين المنظومة العربية الحاكمة وبين شعوبها. نقطة النزاع الحقيقية هي الشرعية، شرعية الانظمة.

شرعية الانظمة مفقود الامل فيها ان لم تتحول الى دول تعبّر عن مواطنيها. والمواطن لا يكون مواطناً في نظام، وخاصة اذا كان استبدادياً، بل يكون ويوجد في اطار الدولة.

في الدولة يولد المواطن، ولا ضير في ان تضاف الهوية القطرية، هوية الدولة القطرية الى الهوية العربية. كل فرد في العالم متعدد الهويات.

النزاع بين المنظومة الحاكمة العربية وبين شعوبها هو صراع دام كثير القتل والخراب. هو بين الوجود العربي ومن يريد الغاءه. التعبير الحالي عن الوجود العربي هو الشرعية. يصعب على النخب العربية فهم ذلك لان وعيها السياسي يدور حول النظام والصراعات فيه، لا حول الدول. هناك سوء فهم للمعنى التجريدي للدولة ولوجودها المادي وللسياسة. المعنى التجريدي للدولة هو الحدود، والوجود المادي هو المواطنة والتنمية والتقدم. الفقر والبطالة والهجرة والاستبداد والقمع وعدم الإكتراث بحياة الناس وهزء الحكام بوعي شعوبهم هي امور تفقد النظام شرعيته. الدولة كيان منغرز في وعي افرادها، من دون ذلك يصير نظاماً فاقد الشرعية.

الوجود العربي حقيقة واقعة، والانتماء العربي حقيقة واقعة. السياسة هي الامر المفقود. السياسة تعني ادراكاً للواقع واستعداداً للتسويات، التسوية الكبرى هنا تكون بين الواقع والممكن. الواقع هو هذا الوجود. الممكن هو هذه الانظمة القطرية وتحويلها الى دول حقيقية. ليس التناقض الاساس هو بين الوحدة والدولة، بل بين الدولة والنظام، الدولة القطرية والنظام القطري، بين النظام والشرعية.

فشلت الوحدة العربية مرة، وفشلت محاولة التوحد مرات، لكن النظام العربي يفشل كل يوم. منع فقدان الشرعية يحوّل النظام الى نظام مغلق، ويفرض اغلاق الوعي على المجتمع. فقد الدين تهذيبه، فقد امكانية التعايش. كان بامكان الكردي ان يكون كرديا عربياً، والبربري ان يكون بربريا عربياً. انفجر المجتمع من داخله ولم يعد التعايش ممكناً.

ليس في المجتمع المغلق اسئلة. السلطة، سلطة الاستبداد، لديها الاسئلة والاجوبة معاً. المواطن يعرف واجبه. المواطن لا يدّخر لان السلطة سوف تصادر ماله منه. اذا سأل عن المخطوفين يتم اسكاته. المواطن لا يعمل لانه لا فائدة من عمله، البطالة للجميع، دول النفط لديها المال لترشو به شعبها، وترشو به انظمة الاستبداد العربية. منظومة عربية كاملة متكاملة يدافع فيها كل حاكم عن نظرائه.

المجتمع المغلق يدور حول نفسه. البعث العلماني (نظرياً) يدور حول الدين، يتلاعب به يدعم أطرافه، يظن انه (البعث) ابدي، وان الدين سيبقى بين يديه نظرية قومية جوهرها الدين نظرياً وعملياً. عندما تمنع الاسئلة، وعندما يمتنع الحوار الجدي، يدور الناس حول ما كان عليه تاريخهم. تعاد صياغة التاريخ لصالح النظام الجديد. المثقفون حاضرون للقيام بالمهمة لقاء حفنة من المال والسلطة للخروج من وضعهم المهمش واليائس. يدورون حول السلطة ويصيرون عملاءها.

قوميات مثل الفرنسية والانجليزية والاميركية واليابانية والكورية افلحت في الانفتاح والتقدم عندما وضعت الدين جانباً، وما كانت بحاجة الى تاريخ موحد عندما جعلت الدين علمانياً: فردياً لا جماعياً. تقدّس الجهل، صار تبادل الافكار بين الدين والقومية مبتذلاً: اسئلة معروفة سلفاً، واجوبة مضجرة لارضاء السلطة.

لا مغامرة فكرية او مالية، ولا مراكز بحث. تعطّل العقل والوعي. في البلدان التي عددناها سابقاً راسمال مغامر وعقل مغامر. في منطقتنا، وضع كل ذلك في خدمة النفط وامرائه وملوكه، خلت لهم الدنيا. جرى تطويع الجميع وتوجيههم. أخطر ما في الامر تدجين العقل. تحويله الى تفاهة تكون مزبلة التاريخ. وذلك حين يعيش المجتمع على تفاهاته، على الانجازات القديمة التي اصابها الاهتراء لكثرة التداول بها.

وجود الدولة الاسرائيلية نتيجة لا سبب. هزيمة الامبريالية بالاستقلال تحوّلت الى نصر بالتبعية- تبعية الانظمة العربية لها، ولملوك وشيوخ يعيشون على فتات المائدة النفطية. هزيمة عبد الناصر نتيجة لا سبب! عندما ينهزم المجتمع في معركة التقدم والحوار المفتوح والانتاج لا يستطيع القائد الا ان ينهزم او ان يكون بطلاً للهزيمة.

آفتنا القومية هي في المجتمع المغلق، ليس في القومية بحد ذاتها. ولا العروبة مكتوب لها ان تكون هذه القومية او هذه الهزيمة، وثورة 2011 برهنت عكس ذلك. ربما بعد فوات الاوان. برهنت ثورة 2011 ان هذه الشعوب على الرغم من الهزائم ما زالت تتمتع بحيوية فائقة، وان مطالبها اشعلت حركة مماثلة في العالم، وان عروبتها تفعّلت سياسياً، وان هذا كان امراً مرعباً بالنسبة للمنظومة الحاكمة وللنخب التي تقود العالم.

ليس قدر الشعوب العربية ان تهزم ولا ان تفشل في مطالبها، لكنها بحاجة الى نظريات جديدة، نظريات اممية تتوافق مع عروبتها، مع وجودها العربي. ليست القومية العربية حكراً على احزاب مثل البعث والاحزاب القومية الاخرى التي فشلت. ربما كان مطلوباً من اليسار، الذي يؤهله تراثه لصوغ نظرية اممية انسانية للعروبة، ان يوجد قومية عربية مفتوحة لمجتمع مفتوح. آفتنا الآن ان المجتمع وعيه مغلق، وما نتج عن ذلك وعي نظري مغلق، سواء كان عروبياً او اسلامياً.

لا مجتمع مفتوحا سوى بالسياسة والحوار والدولة. لا تتناقض الدولة القطرية مع العروبة، بل ربما صار مستحيلاً ان تقوم دولة عربية (قطرية) من دون التأسيس على عروبة ذات نظرية قومية مفتوحة، عروبة ذات مدى اممي. ليس في الامر تناقض الا اذا كانت ايديولوجيا العروبة (القومية) مغلقة. ولا خلاص لنا من الخراب والدمار والقتل والتشريد والتطهير المذهبي والعرقي والحروب الاهلية الا بمجتمع مفتوح وامة مفتوحة وعروبة مفتوحة. الامة والقومية العربية كما عرفناهما انتهيا. لكن الشعوب العربية لا ولن تنتهي. عدد الذين يعتبرون انفسهم عرباً يفوق 300 مليون نسمة. ومن واجبنا ان نضع لهؤلاء الناس نظرية تناسب مصيراً يستحق الاحترام. لم ينته عصر الايديولوجيا، لكن انتهى عصر هذه الايديولوجيا. انتهى عصر افكارجربناها وكررنا ذلك على مدى عقود من السنين واثبتت فشلها.

والى الاسبوع المقبل بعنوان “العرب والمجتمع المفتوح”

تنشر بالتزامن مع الاعمار والاقتصاد

Exit mobile version