كلما ذُكرت القدس، أو احتلت صورتها شاشة التلفزيون تتقدمها القبة المهيبة للمسجد الأقصى، شعرت دبيب النمل في صدري، وتيبّس الريق في حلقي وأنا أستعيد وقائع ذلك اليوم الأغبر من أيار سنة 1964.
في مطار بيروت التقينا من دون اتفاق: غسان كنفاني، وكان رئيس تحرير جريدة ”المحرر” آنذاك، وأنا موفداً من ”دار الصياد” حيث كنت أعمل مدير تحرير في مجلة ”الصياد” ومندوباً ”عربياً” متبرعاً للطوارئ في جريدة ”الأنوار”.
أما غسان فكان ذاهباً بصفته عضواً في ”المجلس الوطني الفلسطيني”، قيد التأسيس، في حين كنت ذاهباً لتغطية هذا الحدث المفصل: اكتمال منظمة التحرير الفلسطينية، حديثة الولادة، بمجلس تشريعي يضم نخبة النخبة من الشعب الفلسطيني في الداخل كما في ديار الشتات.
وكانت القدس هي المقصد، قبل المنظمة والمجلس.
قال غسان بسخريته الناعمة: عال، ستكون مهمتك الأولى تغطية منعي من دخول عمّان وأنا في الطريق إلى القدس.
ولكنك ذاهب إلى المجلس الوطني وأنت الآن ”نائب” والنظام الأردني لم يمنع عقد المجلس في القدس، وبديهي أنه لن يمنع أحداً (حتى خصومه) من الدخول، وإلا أثار أزمة عنيفة هو في غنى عنها الآن، خصوصاً وأن ولادة المنظمة ومجلسها الوطني أمنية غالية على قلوب العرب جميعاً وليس الفلسطينيين فحسب، تصور أن السفارة الأردنية منحتني التأشيرة فوراً برغم أنني ممنوع من الدخول..
قال غسان: أنظمتنا أغبى مما تتصور.
قامت الطائرة من بيروت إلى عمان عصراً، ووصلنا مع المغيب.
قبل أن نتبادل ”حمداً لله على السلامة”، سد باب الطائرة جسد رجل أمن غليظ القسمات وبيده ورقة يقرأ فيها… ودوى إسمي بلهجة توحي بالمعنى، فالتفت إلى غسان شامتاً: أنا الخطِر، لا أنت..
بعد لحظة، كان الرجل الغليظ القسمات يطلق اسم: غسان فايز كنفاني.
وعندما لمح أيدينا مرتفعة تدله علينا قال: ليبق كل منكم في مكانه. لا تنزلوا مع الركاب.
فرغت الطائرة فقال: تعالوا،
تحركنا بتثاقل فإذا خلف الغليظ غليظ آخر وثالث على أرض المطار.
قادونا إلى صالة الترانزيت الضيقة في المطار العتيق والصغير والذي يوحي أنه إنما أجلسونا، وجلس ثلاثة من حولنا، وذهب الرابع لإبلاغ الضابط بتشريفنا وضبطنا متلبسين..
مرت الدقائق ثقيلة، في حين كان يمضي الركاب خفافاً حتى فرغ المطار إلا منا.
عند الباب، وفي الطرقة بين الصالة وبين قاعة الوصول كانت حقيبتانا تنتصبان كخفيرين إضافيين، أو كشاهدين أخرسين.
“تفضلنا” للقاء الضابط. قال بسرعة: أنتما ممنوعان من دخول المملكة. أنتما معاديان للنظام، ولسوف نعيدكما الآن إلى ”الرمثا” (على الحدود السورية).
قال غسان: لن أعود عن طريق البر، أنا محكوم بالإعدام في سوريا (كان الصراع دموياً آنذاك بين حركة القوميين العرب التي ينتمي إليها غسان وبين حزب البعث الذي كان وصل إلى الحكم ونصب أمين الحافظ رئيساً)..
قلت بلهجة رجل القانون: جئنا بالطائرة ومن حقنا أن نعود بالطائرة.
فرمقت سخرية الضابط: طائرة أبيك، هاه؟!. من أين آتيك بطائرة هالحين؟! ستعودان بالسيارة.
هتفنا معا: لن نعود.
برزت أمامه مشكلة جديدة: لا مكان تنامان فيه هنا.
لن ننام، سنجلس منتظرين أول طائرة.
لست خادماً عندكم، ولا شرطتي ”غارسونات”.
لا نريد أكثر من هذا المقعد وكأس ماء.
غضب الضابط. وانفجر غضبه حين طلب غسان أن يتحدث إلى أمانة سر المجلس الوطني، أو الى رئيس منظمة التحرير (ومؤسسها) المغفور له أحمد الشقيري.. وطلبت أن أتحدث إلى السفارة اللبنانية. تعقدت المسألة وبانت الحيرة على وجه الضابط صغير السن قليل الخبرة. كان الحل أن يخرجنا من مكتبه ليعود إلى رؤسائه.
إلى صالة الترانزيت من جديد، قبل أن تستأنف المفاوضات ويعنف الجدل، ثم استشارة جديدة للرؤساء، تمهيدا لقبول فتوانا معدلة: ”سنأخذكم الى فندق قرب مديرية المخابرات، وينام معكم رجل منا على حسابكم، ومع الصباح الباكر تعودان على الطائر الميمون من حيث جئتم مع ألف سلامة”!
أعقد حلقة في المفاوضات تمثلت في إقناع الرقيب ”صخر” بمواكبتنا إلى مديرية المخابرات مع جندي آخر، كانت المعضلة: كيف يعودان؟!
قال الضابط: دبِّر راسك. تصرف. إن شاء الله ترجع بصاروخ..
كان ”صخر” ينتصب كالجبل بجذعه الضخم ووجهه ذي السمات الطفولية برغم الشنبين المهيبين اللذين يحتلان نصف المساحة ويرسمان إطاراً للأنف والعينين.
لم يجب صخر. غامت عيناه، واندلقت شفته السفلى إلى تحت، وارتخى جسده المشدود. كان صخر يفكر، ويبدو أنه استوفى ”المشهد” تماماً ورأى نفسه على رأس الصاروخ يمخر به الجو كما في حكايات السندباد…
هدر الجبل: لا والله بصاروخ ما أنا براجع!
وتدخلنا لحل المشكلة فتعهدنا باستئجار سيارة تعود بالجبل ومن معه.
مع الفجر اقتادونا إلى المطار في موكب فخم: دراج، ثم سيارة شرطة، فسيارة الأجرة التي تقلنا، فسيارة شرطة خلفنا.
في المطار كانوا حريصين على أن يربطوا لنا الأحزمة بأيديهم.
أقلعت طائرة الداكوتا الصغيرة، بعد لأي، ووجهتها بيروت عن طريق القدس. هللنا وكبرنا: متى وصلنا القدس سنجد الحل أمامنا.
تزاحمنا على النافذة الضيقة، ثم تبرع لنا الراكب خلفنا بنافذته، فالتصق كل بالطاقة الزجاجية الصغيرة نستشرف عبرها معالم القدس من على بعد.
كانت الشمس قد فردت ضياءها، وان تبقى شيء من حمرة دماء الفجر في الأفق البعيد، وكانت نتف من خرفان الضباب تتناثر هنا وهناك ثم تبعثرها أشعة الصباح بدداً..
أطلت معالم المدينة عبر الدمع كأخيلة، قبل أن تستقر مباشرة في الوجدان.
هي أجمل مما كنت أتصور..
بل أبهى. تأمل هذا المزيج من الزيتون والآذان والقباب. لكأنها كرسي الله.
أتخيل المسيح في مكان ما هنا، لم يكن عابراً. إنه في الهواء ونور الشمس وروح المدينة، هل يقدر اليهود على الله؟
هنا صلى عمر! أنظر، إلى يمين النافذة مباشرة. كيف يمكن أن يبقى بن غوريون وتمسح آثار عمر بن الخطاب؟! هل كان الفاروق عابراً وضيفاً ثقيلاً على هؤلاء البولونيين والتشيك والروس والألمان؟!
أحس التاريخ يتنفس هنا. أكاد أسمع وقع خطواته. هنا بيته ومصلاه. هل تهزم الدبابة التاريخ؟! هل يمكن احتسابه بين القتلى أو بين المقتلعين من بيوتهم والمرميين في صقيع التيه؟! كيف يعيش التاريخ إذا ما قطعت رأسه ولسانه وأذناه ويديه؟!
هل ترانا نراها بخيالنا أم أنها متوهجة كبدر سهل البقاع، كالأمنية؟
هي أجمل مما نرى. سأجعلك تمشي فوق كل بلاطة في أزقتها الضيقة المزدحمة بالأنبياء والرسل والتجار والصنايعية. بعضهم ما زال هنا منذ بداية الخلق. لم يبدل حتى اللباس. الغبار سطور تقرأ فيها سيرة الأيام الخوالي. سأريك ما لم يره أحد. أعرف القدس أكثر مما أعرف وجهي. أعرف ما لم يكتب عنها. انها قصيدتي.
هبطت الطائرة بثقل تعجلنا. انفتح الباب الصغير، وهجم النور عبره، ثم سرعان ما عادت العتمة مع ”غليظ” جديد، نادى على كلينا، غسان وأنا، فأحسسنا الدم ينفر من عيوننا… أنكون في القدس ولا نتمرغ في ترابها المقدس؟! لا يسمح لنا بملء صدرنا بنسيمها وعبقها؟! أنصلب على باب الأقصى؟! أيحظر علينا التجول في كنيسة القيامة؟!
هبطنا من حالق ومشينا مخفورين إلى صالة الترانزيت من جديد.
أجلسنا على مقعدين عند عمود ركز عليه هاتف. تفاهمنا بالنظر فوراً. حاولت إشغال ”الغليظ” المتلهي بقراءة الجريدة القديمة بأسئلة بلا معنى، في حين مدّ غسان يده إلى السماعة، وهم بأن يدير القرص فجمدت يده همسة ساخرة: لا تتعب نفسك يا عزيزي. لا حرارة!
حاولنا. طلبنا الضابط. طالبنا بأن نحدث أحدا من أمانة سر المجلس الوطني، تحديناهم بمنظمة التحرير ورئيسها، رئيس فلسطين، الشقيري. أخيراً، رمينا بالسياسة والصحافة جانبا وهتفنا: ولكنها القدس، مدينتنا، معراج نبينا، وقيامة نبينا. جامعنا وجلجلتنا. ولكنها القدس ونحن بعض ترابها. ولكنها قدسنا ونحن أهلها، لسنا طارئين ولا غرباء، ولا نحن جيش احتلال. ولكنها القدس نبراس مسيرتنا إلى أحلامنا، بل هي مهجع الأحلام. ولكنها القدس التي يصغر فيها الملوك ويطرد منها الفريسيون بالسياط. ولكنها القدس ومنها ملامحها ولون البشرة وفي مآقينا تستقر صورتها الهوية.
حافظوا على احترامكم لأنفسكم، ولا تضطرونا إلى القسوة.
لكنها القدس. ماذا أقسى من أن تحرمنا من التبرك بالقدس. من أن نتوه في أزقتها، نستنشق الصلابة والصمود وإرادة البقاء، نقرأ الفاتحة على أجدادنا ونستمد من روحها العزم على حفظها، حفظهم، حفظ المقدس من تاريخنا.
ممنوع يعني ممنوع، انتهى الكلام… خذوهما! المقدس هي الأوامر!
أهي قدسك يا رجل؟! هي أرضنا وفضاؤنا، هي روحنا، هي حلمنا. كيف تتجرأ على منعنا من دخول الحلم؟! هل ترانا حملة صليبية جديدة، أم ترانا طليعة غزو إسرائيلي؟! ليس معنا إلا أمانينا وقلم ضعيف وعيون تتشوق لأن ترتوي من منهل الإيمان والقداسة.
إلى الطائرة، هيا، لا وقت لتخاريف المجاذيب..
… وفي الطائرة الصغيرة جلسنا نتأمل من خلف دموعنا ملامح القدس التي أخذت تغيب خلف الصورة الملكية حتى اختفت تماما.
وحتى اليوم، لا أرى صورة القدس إلا من خلف حاجز من الدموع.
لعل غسان كنفاني الشهيد يستمتع الآن بالنطنطة فوق بلاط الأزقة، ويمشي ألف مرة في اليوم نيابة عنا جميعا على درب الآلام متعجلاً الصلب.