طلال سلمان

الفساد حاجة وطنية ودعامة سياسية

يكثر الكلام على الفساد. لا يتوقف سيل التهديد لمحاربة الفساد. يوجهون للفساد أصبع الاتهام. يحملونه مسؤولية المديونية وما آلت اليه أمور البلاد والعباد.

مهلاً قليلاً. هل هناك بديل عن اقتصاد الفساد؟ عن نظام الفساد؟ عن طبقة الفساد؟ لا. الفساد شر لا بد منه. انه حاجة وطنية جامعة، وإذا، لا سمحت الأقدار، أن توفرت الارادة والفعل، فلا شك أن كارثة ستحصل، ومجاعة ستحل.

إن نظام الفساد اساس من اعمدة الهيكل اللبناني. من دونه تنعدم الرؤيا وتهان الواقعية. الاكثرية في لبنان مستفيدة من تعميم الفساد. فهذا، لم يعد اختصاص المفسدين والفاسدين، بل هو خشبة الخلاص امام شعب، لا ينتج زراعة توفر البحبوحة. الزراعة، هي اقتصاد الرمق الأخير. هل يعيش اللبناني من الصناعة المتضائلة؟ انها صناعة النفس الأخير. هلي يعيش على السياحة المتوقفة او المتضائلة؟ أي سياحة ومن سيقصد بلداً موبوءاً ومفتوكاً به، مناخياً وبيئياً واجتماعياً، ومالياً؟ من يتجرأ على المجازفة ويرتاح إلى امكانية اصابته بالسرطان؟ هذا، وطن يشبه الاعدام مع وقف التنفيذ؟ هل الدورة الاقتصادية في لبنان تقوم على الانتاج؟ هل الشركات الصغيرة والوسطى والعملاقة بعيدة عن تجارة وسلعة الفساد، ام انها، لتبقى، مضطرة أن تكون فاسدة، فتتهرب من القوانين والمراقبة وتخفي ربحيتها، عبر مقولة “الدفترين”، وما أدراك بمن يمسك باقتصاد “الدفترين”. هذا اقتصاد تمرنت عليه طبقة تجارية، سياسية، مذهبية، جعلت البلد برمته، “كونتوار” لتبييض المخالفات والسرقات. اليس اقتصاد الفساد، هو الاقتصاد الأكبر، بحيث يتضاءل امامه الاقتصاد الأبيض، والأبيض هنا، هو بياض العفة الذمية، لا “الابيض الكولومبي”، العابر للحدود والجمارك واجهزة الرقابة الغافية على ملء جفونها، مقابل جائزة الرشوة.

فليتوقف اللبنانيون عن محاربة الفساد. هذه حرب دونكيشوتية، إن للفساد انيابا اشد فتكاً من الديكتاتورية. امتناع الفساد في لبنان، مساس بلقمة عيش اللبنانيين المذلة والمعيبة. من دونها، يقرع الجوع وتدخل الفاقة بيوت العاطلين عن العمل، لعدم اتساع اقتصاد الفساد لأكثر مما هو قائم.

ثم، لا يقصر اللبنانيون في اتهام الادارة، بأنها مغارة علي بابا.

هم على حق في التوصيف، ولكنهم ليسوا على حق في معرفة قيمة الادارات الفاسدة، والرقابة الفاسدة، والعدالة الفاسدة، والسياسة الفاسدة. الادارات ومؤسسات الدولة، هي ملك السياسيين، هي مورد رزقهم المالي، عبر الصفقات والتعهدات والمشاريع، وهي مورد شعبيتهم التي تلجأ “الزعماء” كي تنحشر في ادارة‘ همها الأول ارضاء اصحاب النفوذ السياسي والمالي والمذهبي. من دون الادارة الفاسدة، يتعرى السياسيون كليا، ويفقدون حدود رزقهم الذي يؤمن لهم تخمة في الارصدة. والويل، كل الويل، للبنانيين إذا اصبحت الادارات ميدان معارك السياسيين. عندها: لا ماء، لا كهرباء، لا بيئة، لا صحة، لا نظافة، لا تربية ولا تعليم، لا زراعة، لا صناعة، لا “سيدر”، وما قبلها وما بعدها…

قليلاً من الحسابات. عدد العاطلين عن العمل بمئات الآلاف. كانت العمالة المصدرة إلى دول الخليج العربي، والى المهاجر الافريقية وبعض جمهوريات الموز، ترفد الاقتصاد بالمليارات، وتساهم في “إغناء” دورة العمل الاقتصادية… اليوم، تضاءلت الريوع من المغتربين. ما البديل؟ لا وظائف في لبنان. باستثناء مغاور الإدارة وبعض المؤسسات الامنية. لا وجود لفرص عمل. حتى المصارف بدأت تشد الأحزمة. تخشى من فقدان السيولة. تبحث عن تدفقات خارجية.

أين سيعمل اللبناني، إن توقف حشو الادارة بالعاطلين عن العمل، وخريجي الجامعات والمتفوقين… السفر كان مغامرة ونعمة. لم يعد كذلك. ما اصيبت به بلاد المشرق غير مسبوق. الحروب اكلت السيولة النفطية وقضت على الثروات الوطنية.

قليل من المخيلة. لقد وضع مجلس النواب يده على توظيف غير شرعي ابان فترة ما قبل الانتخابات. اليوم، يهدد هؤلاء البؤساء، أكثر من خمسة الاف، بقطع رزقهم. يريدون تنظيف الادارات من الزوائد، وهي تشكو من النفقات… لنفترض انهم أقدموا على هذا الارتكاب. وصرفوا هؤلاء التعساء. فمن يطعمهم؟ من يدفع اقساط اولادهم؟ وألف سؤال آخر. اننا نحوِّل هؤلاء البؤساء، إلى متسولين. حيث لا وظيفة جاهزة، لا سفر مجزٍ ومضمون، ولا امكانية للاعتماد على النفس… انها لجريمة، أكبر بكثير من جريمة توظيفهم المعتل بالواسطة والمنفعة الانتخابية.

ثم لنتجرأ قليلاً لنرى بأم العين، أن لا شرعية في الدولة تعلو على شرعية الفساد. لنفترض أن الدعم الخارجي للأحزاب والمنظمات والجمعيات الطوائفية والسياسية قد توقف. ما العمل. وفي الاصل، إن هذه التحويلات التي لا تمر عبر ممر الدولة، هي اموال مدانة بالفساد.

إن مجانين محاربة الفساد، وانا وكثير من قبلي منهم، قد فقدوا كل نظرة واقعية. اننا بحاجة إلى فساد، بشرط تنظيمه وتعميمه، بحيث لا تظلم منطقة او طائفة او مجموعة منه. أفسدوا بعدالة.

أليس كذلك، هذا المجتمع اللبناني محكوم عليه بالزوال، اليس بسبب هذه المنعة التي يحظى بها الفساد، لا دستور ولا قانون ولا محاكم ولا عدالة، ولا مساواة ولا ديموقراطية، ولا غد كذلك، ولا شعب أيضاً. شعب يتوسَّل الفساد كي لا يتسوَّل.

هذا الذي اصيب به اللبنانيون ينتمي إلى منظومة “الجريمة المنظمة”. والجمهورية اللبنانية، منذ تأسيسها الميمون، قامت على الفساد والإفساد، بحماية مبرمة من قبل البيوتات السياسية، والاحزاب اللبنانية الرسمية الطائفية، والمرجعيات الدينية والمذهبية.

لبنان، ليس وطناً. لم يرقَ بعد إلى مرتبة جمهوريات الموز. انه نموذج للدول المنحلة، والمهددة دائماً بالإفلاس، وهو إفلاس عام، مالي وخلقي ووطني وسياسي و…

وبرغم ذلك، فان الفساد حاجة وطنية، لهذه الدولة المفلسة، اخلاقياً وسياسياً ومالياً… والحكام، لا يعوَّل عليها ابداً.

تباً.

 

 

Exit mobile version