طلال سلمان

الفتنة مشتعلة وترامب يزيدها اشتعالاً

صعب ألا تشعر بدرجة من التوتر العنصري أعلى من المعتاد وأنت تمشي في شارع جانبي في مدينة أمريكية. صعب أيضا ألا تشعر بالدرجة العالية نفسها من التوتر العنصري وأنت تستمع إلى الخطاب الإعلامي الأمريكي في مرحلته الراهنة. أذكر جيدا أن الأمر لم يكن على هذا النحو في عهد الرئيس باراك أوباما. أشهد أنني من خلال متابعتي التطورات الداخلية في المجتمع الأمريكي لم أقابل حالات اشتباك اجتماعي بمواصفات عنصرية بالكثافة ولا بالعدد الذي أقابله في أيامنا الراهنة.

يتراوح تفسيري لهذا الاختلاف في مرحلتين متعاقبتين من مراحل الحكم في الولايات المتحدة بين رأيين. رأي يرى أن وجود رئيس أسمر في البيت الأبيض قلل من فرص الاشتباكات العنصرية. أضف إلى ذلك برود الخطاب السياسي للرئيس أوباما وتوخيه الدقة في معظم تصريحاته وخطبه السياسية فضلا عن استعداد حكومته منذ شهورها الأولى للانسحاب من التدخلات الخارجية وإعداد البلاد لمرحلة قد تكون عصيبة تتأقلم خلالها الولايات المتحدة مع واقع جديد، إنه واقع انحدار مكانة أمريكا الدولية وانحسار إمكاناتها الكلية بالمقارنة بمجتمعات أخرى صاعدة. في ذلك العهد، أو العهدين، حرصت القيادة السياسية على تفادي كل ما من شأنه تعطيل برامج الاندماج الاجتماعي، وبخاصة الاندماج العنصري بين مختلف عناصر الأمة. لاحظنا وقتها كيف كان النظام السياسي أقدر على التعامل مع قضايا اندماج المهاجرين من بلاد أمريكا اللاتينية على عكس النظام السياسى الراهن.


الرأي الآخر يحمل الرئيس دونالد ترامب المسؤولية عن توسيع رقعة الاختلاف بين الرئاستين المتعاقبتين إلى هذا الحد المثير للجدل. يجب على كل حال وقبل البدء في عرض هذا الرأي أن اعترف للرئيس ترامب بأنه كان الرئيس الصادق بحق عندما رفع شعار إعادة أمريكا عظيمة مرة أخرى ليخفي تحته حقيقة ومدى انحدار مكانة وإمكانات أمريكا على حد سواء. كان أيضا صادقا عندما جمع كل كراهيته للأقلية «السوداء» في شخص رجل واحد، هو الرئيس باراك أوباما. لم يخف على أحد أنه لن يهدأ له بال حتى يسقط ولايتي الرئيس أوباما من سجلات الانجازات الأمريكية، ويحمل فشلها لواقع يجب ألا يتكرر، واقع أن يقود أمريكا في مختلف القطاعات أفراد من أقليات سمراء. كان ترامب محقا في إعلان العولمة سببا مباشرا في أن عددا لا بأس به من العمال فقدوا وظائفهم، من هؤلاء عمال اشتغلوا في مناجم الفحم وصناعة الحديد والصلب والصناعات القائمة عليها كالسيارات والكابلات، وكلها مع قليل غيرها تصادف أن اختار العمل فيها عمال بيض البشرة والطابع والسلوك، هؤلاء في أكثريتهم الساحقة فقدوا أو كادوا يفقدون وظائفهم بسبب انخراط أمريكا في شبكات العولمة. كانت أمريكا وبحق قائدها والمستفيد الأكبر من مرحلتها الإيجابية كما انتفعت منها قوى اجتماعية معينة في جميع أنحاء العالم وتضررت إلى حدود قصوى، لم ندرك وقتها مداها، قوى أخرى. آل ترامب على نفسه أن يجعل مشكلة هذه الأقلية من العمال البيض موضوعا لحملته الانتخابية ثم ليطلق من خلالها حملته الأعظم ضد العولمة وضد المستفيدين منها وفي مقدمهم الصين والاتحاد الأوروبي. حدث ما لم يكن متوقعا ولا متصورا. أصابت رصاصاته التي أطلقها في قضية بطالة العمال البيض أهدافا عديدة. أصابت، بين من أصابت، الهدوء الظاهري في العلاقة بين غلاة التعصب في بعض مجتمعات الجنوب الأمريكي والواقع الاجتماعي المتردي للأقلية السمراء، وأصابت مباشرة وبحدة واضحة التماسك، الظاهري أيضا، في المعسكر الغربي وعلاقة الاعتماد المتبادل بين الولايات المتحدة والصين.


يهمنا بدون شك ما يحدث في أمريكا، يهمني شخصيا فلي من صلبي ويعيش في أمريكا أحباب وأعزاء أسعد بسعادتهم وأشقى بمتاعبهم وشكاواهم. لا أخفي عنهم قلقي على أولادهم وأحفادهم من مستقبل يفلح ترامب لو استمر لولايتين متعاقبتين في تعميق هوة الكره العنصري. أخشى عليهم من أن يضحي ترامب أو من يأتى بعده بالاندماج القومي في الولايات المتحدة في سبيل استعادة الهيمنة المطلقة للرجل الأبيض على ما سواه من ألوان الرجال. ترامب وأعماله إشارة سيئة لمستقبل مظلم. سمعته أكثر من مرة أتى فيها على ذكر بعض القادة العرب فكرهت ما أسمع. نحن في اعتباره مصنفون أمة سمراء لا تستحق أكثر من أن تكون محلا للسخرية من تصرفاتها كما فهمنا من شرح ودروس أثمرتها صفقة القرن، مهزلة لا يقدم على صنعها إلا كاره للعرب ومتطرف عنصري، وهو بالفعل ما اتضح لنا من خلال إنصاتنا المهذب إلى تصريحات وتوصيات مجموعة كوشنر، بمن فيهم ترامب نفسه وسفيره في إسرائيل ووزير خارجيته. وقع هذا الاستهتار غير المسبوق في علاقات كل عهود الرئاسة في أمريكا بقادة مختلف عهود الحكم في العالم العربي، وقع بسبب الحاجة الأمريكية المعلنة والصريحة والصادقة إلى الأموال العربية. بدونها سيكون صعبا على قيادة أمريكية راهنة أو قادمة وقف انحدار أمريكا، ناهيك عن استعادة عظمتها. ومع ذلك نتلقى من العهد الأمريكى القائم استهتارا بحقوق العرب واستخفافا بمكانتهم بين الأمم.


أخشى أن تكون العلاقات الدولية في الطريق نحو التدهور في الحال وفي الأساليب وأنماط التحالفات ولغة الخطاب عن كل ما عرفناه في مراحل سابقة في التاريخ الدبلوماسي. كانت المصالح تأتي في مقدمة الاعتبارات وبعدها بكثير الاعتبار الأيديولوجي. من الآن، وفي حال تجددت للرئيس دونالد ترامب الولاية ولا شك أنه يسعى بكل ما أوتي من خدع الكذب وقوى التحشيد في قطاع اليمين المسيحي الإنجيلي الصهيوني المتعصب وأموال ممولي الاستيطان الإسرائيلي، يسعى للفوز مرة أخرى، وقد يفوز بالفعل. أقول أنه في حال تجددت لترامب الولاية واتسعت دوائر الخلافات مع الصين وتعمقت سياسات الكره تجاه الدول اللاتينية المصدرة لمهاجرين سمر البشرة واستنفذ غايته من الأموال العربية وتعددت أسباب الصدام مع دول غير عربية في الشرق الأوسط ووسط آسيا وهو الحادث الآن وبكثرة ملفتة، فالمتوقع غالبا أن تبدأ مرحلة في العلاقات الدولية تعتمد الكره العنصري أساسا لها، وهو ما لم يحدث في التاريخ إلا نادرا، كحروب الاستعمار الغربي في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وبعض معارك جيوش الغرب والمرتزقة مع الإرهاب والدول المصدرة له.


نعيش مرحلة الفتن الكبرى. هناك من يسعى لإشعال فتنة في أوروبا عن طريق دعم القوى اليمنية المتطرفة في دول غرب ووسط القارة. هناك أيضا من يضرم النار في أوضاع اجتماعية متدهورة في أمريكا الشمالية. وهناك في أقصى الشرق دولة عظمى صاعدة بشرتها بلون غير أبيض تتقدم بسرعة فائقة لتحتل مواقع أمامية استعدادا لصدامات تاريخية نخشى أن تنشب لأسباب عنصرية.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version