طلال سلمان

العروبة اليوم.. العروبة غداً

للمؤمنين بالمصادفات أن يربطوا بين 28 أيلول سنة 1970 و28 أيلول سنة 2000، وأن يستنتجوا ما شاءت لهم عواطفهم من استنتاجات تعزز الإيمان بأن دوام الهوان من المحال، وأن الأمة لا يختزلها فرد، مهما بلغ من عبقرية القيادة وسحر الشخصية الكاريزمية.
فالانتفاضة في فلسطين جاءت لتسقط جدار اليأس والاستكانة الى الاستسلام المريح!
ثم إنها جاءت لتثبت مرة أخرى ان الانسان العربي، في فلسطين كما خارجها هو البداية والنهاية.. فالانتفاضة هي الناس، كل الناس، البسطاء الفقراء، العمال الذين لا يجدون عملا، الطلاب المقفلة جامعاتهم، التلامذة الذين عليهم أن يفتحوا الطريق الى مدارسهم بإزاحة الدبابات منه بأكفّهم الصغيرة.
وكما ان الناس هم الذين »ولدوا« جمال عبد الناصر، وهم الذين حموا اندفاعه الى مواجهة المحتل الأجنبي، والمستغل الداخلي والمتخاذل العربي، فإن الناس الذين كانوا قبله والذين عاشوا معه والذين جاءوا بعده، هم الذين تقع عليهم اليوم أعباء المقاومة للاحتلال، في العراق كما في فلسطين، وكما كان من قبل في لبنان.
هؤلاء الناس، البسطاء من الناس، الطبيعيون من الناس، المقاومون من الناس، الذين يعطون بغير منّة، ويبذلون دماءهم رخيصة بغير سؤال، إنما هم مؤمنون »بوحدتهم« مشرقا ومغربا، مؤمنون بأن ما فيه خير فلسطين فيه الخير قطعا للعراق، وما فيه عزة لمصر فيه عزة لكل العرب..
هؤلاء الناس يؤمنون، بغير ان يغرقوا في ترجمة الايديولوجيات، وبغير أن يتوهوا في بحور الفلسفة، انهم »عرب«، وأن رابطة عريقة وثابتة ودائمة وأساسية تشدهم بعضا الى البعض الآخر، وتمنحهم فضلا عن الهوية قدرا من الأمان ومن الأمل بالمستقبل، مهما قست عليهم الظروف… في الداخل، والمؤامرات من الخارج.
* * *
المشهد أمامنا مخيف: في أقطار المغرب العربي، الجزائر أساسا ثم المغرب الأقصى، توترات تنذر بحرب أهلية عمادها تجدد الصراع بين العربية والامازيغية او بين العرب والبربر، لم تعد تكفي وحدة المذهب الاسلامي، المالكي، لمنع خطر تفجرها.
لكأنها حالة خروج جماعي من العروبة وعليها.
في ليبيا زعزع الحصار يقين عقيدها الذي كان ذات يوم يتباهى بالرتبة التي خلعها جمال عبد الناصر عليه، وهي: الأمين على القومية العربية… وها هو الآن يقول بأن العروبة عنصرية، ويسعى الى أفريقيا طلبا لحماية لم يوفرها له أخوته العرب.
أما السودان فيكاد يتشطر أمام عيوننا على قاعدة انقسامات شعبه العرقية والدينية، إذ حاول الحكم الذي لا دين له في أي مكان او زمان، ان يفرض الشريعة الاسلامية بالقوة، فكانت فرصة لكل القوى الاجنبية كي تتدخل فتفرض هذه حمايتها على الأقلية المسيحية وتفرض تلك حمايتها على الوثنيين وتفرض الهيمنة الاميركية حمايتها على الجميع، حكما ومعارضات..
كل ذلك من غير أن يظهر أثر لأي طرف عربي في هذا الصراع المزمن الذي مزق وحدة واحد من أكبر الأقطار العربية مساحة وأغناها ثروة وأصفاها سجية.
أما مصر فقد ضيعتها ركاكة إدارتها التي فتحت خزينتها للنهابين، وفتحت باب القرار فيها أمام الحليف العدو، فإذا الاسرائيلي هو المتحكم المتجبر في ظل الانكسار والانصياع لمنطق الهيمنة الاميركية مقابل حفنة من الدولارات.
وإذا هذه البلاد العظيمة ذات الدور القيادي الذي لا يعوض غائبة عن ذاتها مغيبة عن أمتها لا هي أولى بين أهلها العرب ولا هي متقدمة في قارتها الأفريقية ولا هي معدودة بين صناع القرار على المستوى الدولي.
أما فلسطين التي تسكن عيوننا ووجداننا جميعا فقد هربت قيادتها من العروبة بوهم انها ستحظى بالدولة الموعودة، فإذا هي تائهة عن أرضها تحاول عبثا أن تهتدي بخارطة الطريق الاميركي فلا تزداد الا ضياعا.
وأما سوريا ونحن في لبنان معها فتحت الحصار الشديد، يمنع عليها وعلينا أن نعيش عروبتنا في واقعنا السياسي، تحت طائلة العقاب بالمسؤولية عن الإرهاب، في الداخل وفي الخارج على امتداد الدنيا… فإذا آخر القابضين على جمر عروبتهم يحاسبون على جنون الدم عند بعض التنظيمات المستولدة بالتعصب تحت الشعار الاسلامي والتي ترى في العروبة كفرا يهون أمامه الكفر الامبريالي او الكفر الصهيوني في فلسطين…
* * *
في آخر انتخابات نيابية جرت في الكويت، قبل ثلاثة شهور، سقط آخر المتحدرين من حركة القوميين العرب، في حين كان هؤلاء القوميون يشكلون أغلبية نسبية في أول برلمان منتخب في هذه الإمارة الصغيرة قبل أربعين عاما.
من هم البدلاء؟ إنهم خليط من الاسلامويين والبدو والأعراب ونواب الخدمات أي »زلم الحكم«، وبعضهم يرى في »المحرر« الاميركي مثلا أعلى، له عليهم فضل تخليصهم من آفة التخلف التي كانت تعيق تقدمهم في اتجاه امتيازات البشرة البيضاء والعيون الزرقاء: العروبة!
أما العراق الذي أسقطه حكم الطغيان تحت الاحتلال الاميركي، فقد انكشفت الحقيقة عارية للناس: لم يكن حزب البعث العربي الاشتراكي إلا ستارة تضفي شرعية مدعاة على الحاكم الفرد الذي لم يقبل شريكا حتى من ولده وأخوته وأصهاره.
ومع إسقاط الهوية العربية عن هذا البلد العريق تبعثر أيدي سبأ: صار أعراقاً، أقليات وطوائف وبواقي من عصور اندثرت، تفتقد الروابط التي تجعلها شعبا ومن ثم دولة..
مرة أخرى يواجه العراق، المحتل الآن، وبضغط من عجز الاحتلال عن شطب عروبته خطر الحرب الأهلية… فبعد ثورة 14 تموز 1958 أخذت الأوهام بعض الفصائل اليسارية بعيدا عن حقيقة شعبهم وأرضهم فكانت مجموعة من الحروب الأهلية النقالة بين بغداد والموصل في الشمال والأهوار في الجنوب، حتى صار الأمر لصاحب الدبابة الأخيرة.
وليس بالدبابات يحكم الحزب. وليس بالقهر يكون بعثا.
وأنها لمن المصادفات القدرية أن نشهد الآن هذا التنافس على الخروج من العروبة بين المتسابقين الى السلطة في كل من العراق والكويت، وكأن تلك أقصر طريق الى قلب المهيمن الاميركي، وبالتالي الى السلطة في القطرين.
إن الدول العربية الآن في سياق نحو الهاوية، بالتزاحم على الخروج من العروبة. وليس ينفع الشعار الاسلامي، مزوراً او منتحلا، كبديل قادر على استيلاد غد أفضل.
هذه الجزائر التي كادت تخرج من عروبتها تحت راية الشعار الاسلامي قد دخلت في حومة الحرب الأهلية. لم ينفع الشعار الاسلامي رابطة جدية حتى بين العرب والبربر فيها، بل هو أجج رد الفعل الذي أخرج شعبها كله لاستقبال رمز الاستعمار الفرنسي القديم جاك شيراك في الجزائر العاصمة وفي وهران. وكان الهتاف الأعلى صوتا: فيزا، فيزا… لأن الحكم بالجيش مثله مثل الحكم بالشعار الاسلامي لا يطعم خبزاً ولا يبني دولة قوية.
إن العروبة هوية لهذه الأمة، من المحيط الى الخليج، نعم من المحيط الى الخليج، وبرغم كل المآسي والهزائم والنكسات… فالعروبة ليست دولة، وليست نظام حكم، وليست حزبا او مؤسسة سياسية يمكن خلعها بانقلاب عسكري، او يمكن احتلالها بقوات عسكرية مزودة بأحدث ما أنتجه العقل البشري من أجهزة التدمير عن بعد تمهيدا للاجتياح البري.
إن العروبة هي الهوية، هي شهادة الانتماء لهذه الأرض وتاريخها.
العروبة هي الوطنية الصافية. ليست الكيانية التي تقارب العنصرية فنجعل العربي ضد الآخر، ولو حملها التعصب الى حدود التحالف مع العدو الاسرائيلي، او مع المحتل الأميركي.
أما الحركة القومية، بأحزابها وتنظيماتها المختلفة التي عرفناها وناضلنا في صفوفها على امتداد القرن الماضي، فهي اجتهادات ومحاولات ناجحة او فاشلة بهذا القدر او ذاك لصياغة الفكرة العقيدة في مؤسسة سياسية.
وقد تفشل المؤسسة، الحزب، الحركة، وقد تنحرف تحت غواية السلطة مما يسيء الى العروبة كفكرة، كعقيدة… لكن سقوط الحزب او الحركة او المؤسسة تحت سنابل الدكتاتورية وقمع الحاكم الفرد، الطاغية، لا يسحب نفسه آليا على العقيدة فيلغي هوية الشعب، هوية الأمة، ويدفعها الى تحطيم ذاتها انتقاما منه.
ولقد تلقت العروبة الكثير من الطعنات، وغالبا من حملة شعاراتها، وأحيانا من خصومها، لكنه سرعان ما تبين أن الأنظمة التي حكمت باسم الشعار القومي لم تكن خالصة العروبة ولا هي كانت شديدة الإيمان بالوحدة… بل قد استخدمت الشعار لتبرير حكم دكتاتوري، انفصالي حتما، وبالتالي معاد للشعب ولطموحاته في حياة كريمة، ومعاد بالأساس لعروبة شعبه.
ان معظم الأنظمة التي حكمت بالشعار القومي لم تنجز خطوة واحدة على طريق الوحدة الاقتصادية، ولم ترفع واحدا من الحدود بين الأقطار العربية، بل جعلتها حدودا من نار لأوطان نهائية يحكمها طغاة بالشعار القومي تمويها لتثبيت الانفصال الى الأبد.
على أن التجربة قد أثبتت أيضا ان العروبة أقوى من الانظمة التي ادعت الحكم باسمها.. وها أن الشعوب العربية تحتفظ في وجدانها بصورة جمال عبد الناصر، كبطل، معتبرة ان نظامه الانفصالي قد قتله لإيمانه بعروبته. بل إن رحيله بالذات كان مناسبة لتأكيد حضور العروبة وثباتها في الارض… فلم يخرج الناس من أقصى المغرب الى أدنى المشرق الى الشوارع والساحات بالحزن والحداد وحده، بل أخرجهم إيمانهم بالعروبة وإعلان الالتزام بها برغم رحيل بطلها الذي قربها من التجسد، سياسيا، أكثر من أي وقت مضى.
* * *
إن الخروج من العروبة يعني، آليا، الخروج من الوطنية وعليها. ولا يستطيع ان يدعي الخارج على عروبته أنه بذلك إنما يحمي وطنيته. ولنا من تجربتنا الغنية في لبنان دروس غنية ما تزال حية وقائعها الدامية على الارض كما في وجداننا.
لقد انتهى الخارجون على العروبة عملاء عند العدو الاسرائيلي، يقاتلون أهلهم كطابور متقدم لجيش احتلاله.
ثم إن الاسلام لا يغني عن العروبة. ان فصله عنها قد يؤذيها أذى بالغا، ولكنه لا يعود تبشيرا بالدين الحنيف، بل يغدو استعداء لأهله المؤمنين قبل المشركين والكفار. وفي الجزائر والمغرب والسعودية وسوريا وحتى في لبنان، لم يوجه سلاح بعض الفرق التي اتخذت من الشعار الاسلامي هوية الا الى مسلمين يختلفون معهم بالرأي.
إن في الاسلام طاقة ثورية عظيمة إذا ما وظفت لتثبيت الايمان بالأرض وهويتها.
إن الدول بهوية شعوبها الوطنية وليست بمعتقداتهم الدينية.
لقد انتهى زمان الدولة الدينية.
والدولة الوحيدة التي تبرر نفسها بالدين، في هذا العالم، هي دولة العنصرية والكراهية والإبادة الجماعية لشعب فلسطين، والطليعة المقاتلة لمشروع الهيمنة الامبريالية الاميركية على منطقتنا الغنية بثرواتها، الحاكمة بموقعها الاستراتيجي، كمقدمة ضرورية للهيمنة على العالم.
ولقد أساءت هذه الحركات ذات الشعار الاسلامي الى الاسلام كدين وإلى المسلمين كمؤمنين أكثر مما أساءت الى العرب والعروبة.
كذلك فإن الخروج من العروبة لا يعني الانتماء الى العصر. ليس بطاقة دخول الى العولمة وليس بطاقة انتساب الى العالم الجديد، عالم ثورة الاتصالات والمواصلات.
فلم تكن العروبة في أي يوم حائلا دون التقدم، بل لعلها في منطلقها كانت اقتحاما للسد المضروب حول منطقتنا بالاحتلال العثماني، يمنع اتصالها بحركة التقدم في العالم، ويتركها رهينة تخلفها بما مكن الاستعمار الأوروبي أن يأخذها بغير قتال تقريبا، ثم أن يقسمها كيانات هشة مهمتها الوحيدة تأمين سيطرته عليها.
إن العروبة إعلان متقدم بالانتساب الى العصر: فهي تعني الاعتراف بكل عناصر الأمة ومكوناتها، لا هي عنصرية تستعلي على غير العرب من الأقليات العرقية، ولا هي حالة تبشيرية تعزل او تقصي غير المسلمين عن السلطة او عن الاسهام في تقدم المجتمع والأخذ بأسباب الحياة المعاصرة.
ليست العروبة ايديولوجية صماء لا تقبل التطوير او التعديل او مجاراة العصر.
إنها فعل انتماء الى أرض وتاريخ وثقافة وحضارة لعب الاسلام فيها دورا تكوينيا، لكنها ليست منه تماما بل سابقة عليه، وهو ليس نقيضها ولا هو خصمها، بل طالما أمدها بطاقة على التنوير والتغيير والتحرير.
وتجربة لبنان شاهد وشهيد.
إن العروبة تضيف قيمة اعتبارية لكل دولة، بما في ذلك أصغرها، والكويت قبل اجتياح صدام، كانت مثلا حيا.. فهي كبرت دورا وقيمة بعروبتها وليس بمالها. وهي اليوم تصاغر دورها بقدر ما تراجعت العروبة في سياستها.
بالمقابل كان غياب العروبة يحسم من القيمة الاعتبارية لأكبر الدول العربية، وهذه مصر مثل موجع الغياب.
واليوم يتبين كم كان رواد العروبة من اللبنانيين سابقين في وعيهم، وكم كانوا يصدرون عن حرص على المنعة في وجه الخارج الأجنبي الذي أخذنا بقوة عسكره بذريعة ان يؤهلنا لنليق بعصر حقوق الانسان.

Exit mobile version