طلال سلمان

»العرس«الثاني في قانا الجليل

إملأ عينيك بالمذبحة. لا تنظر إلا مشهدها الصارخ في البرية. لا تهرب ببصرك بعيدù عن الأشلاء المكدسة في أكياس النايلون أو المنسية عند العتبات أو في أطراف المبنى المؤقت الذي كان مطعمù فصار »شاهدة« للقبر الجماعي الفسيح. من مطعم للجنود الفيدجيين الفقراء، إلى »مطعم خصوصي« لشمعون بيريز وجنرالاته الحمائم.
إملأ عينيك بالمذبحة الوليمة. حتى موعد الغداء كان هؤلاء المزق والأشلاء بشرù سويù: نساءً ورجالاً والكثير من الأطفال، شيوخù وعجزة والكثير من الأطفال، شبابù وصبايا والكثير من الأطفال، جنودù لا يعرفون كيف يستخدمون السلاح والكثير من الأطفال. وفي موعد الغداء تمامù أكلهم الوحش المسمى إسرائيل.
إملأ عينيك بالمذبحة الناصعة كالحقيقة، الدامية كالحقيقة، لا تغيّبها ولا تطمسها ولا تحاول التخفيف من هولها. لا تموّهها فتشوّهها بذريعة تجنيب الكبار ما يؤذي مشاعرهم، والأطفال ما يخيفهم، لقد مات الخوف قبلهم. لا تخفف من وقع الجريمة. دعها تسقط على الناس بأثقالها المرهقة، ببشاعاتها الصادقة. دعها تقدم شمعون بيريز بصورته الأصلية. هو إسرائيل الآن. قبله كان إسحق رابين يؤدي المهمة الإنسانية ذاتها، مع أطفال آخرين لهم ملامح أطفال قانا وصدّيقين تمامù. قبله كان إسحق شامير. قبله كان مناحيم بيغن. قبله كانت غولدا مائير. قبلها كان ليفي اشكول. قبله كان ديفيد بن غوريون. لكن المذبحة كانت دائمù المذبحة ودائمù كانت صورة بالملامح الطبيعية لإسرائيل.
لكأنها تقتات بالأطفال، هذه »الدولة الدولية« التي تاريخها مسلسل من المذابح.
لكأنها تقتات بالأمهات والآباء والأطفال، لا سيما الأطفال. بوجناتهم الطرية، بأصابعهم اللدنة، بأقدامهم التي لما تلامس الأرض، بأحلامهم التي لم يتعرفوا إليها بالدقة بعد.
لكأنها وحش لا يعيش إلا بالدم وعلى الدم. غذاؤه الطبيعي اللحم البشري وشرفات الورد المجمّلة ببيوت الفلاحين الساحرة ببساطتها ورموش الصبايا التي تغطي على صورة الحبيب فتحميها.
ومبروك لرجل السلام شمعون بيريز. لقد حاز قصب السباق فجاء الأول بين أسلافه السفاحين بمن في ذلك أبطال الهاغاناه وشتيرن، كما قال فارس بويز، وجدّد الصورة الأصلية التي كاد يمحوها الضغط الأميركي من العين العربية: إسرائيل العدو، أمس واليوم وغدù وفي كل حين.
* * *
تجدد العرس في قانا الجليل.
لكن السيد المسيح لم يكن هناك ليحول الماء الى خمر، فتكفل شمعون بيريز بتحويل دماء الاطفال الى خمر، وشرب كثيرا وسقى جنرالاته حتى ثملوا.
لم تذهب قانا الى الحرب، ولا ذهبت اليها صديقين، هرب اهالي قانا وصديقين، بالاطفال والنساء وبعض الرجال من الموت الاسرائيلي الذي كان قد التهم مع الصباح بعض أقاربهم في النبطية الفوقا الى حماية الأمم المتحدة وعساكرها الذين لم يجيئوا الى لبنان إلا لكي يمنعوا المذبحة.
ولقد استقبل الجنود الفيدجيون الطيبون والفقراء اهالي قانا وصديقين الذين يشبهون آباءهم وأمهاتهم والأبناء الذين يحلمون بإنجابهم بعد العودة. قالوا لهم: تفضلوا، كلوا معنا، لعل عجيبة السيد المسيح تتكرر، فيتوالد الخبز والزاد بما يكفينا ويكفيكم.
* * *
انظر المذبحة في عينيها، انظر المذبحة بعينيك، انظر عيونهم المفتوحة على الفراغ، بعد المذبحة من دون ان تطرف اجفانك او تشيح ببصرك عن شهدائك الشهود.
انظرهم واحدا واحدا. احفظ ملامحهم المجملة بالموت من اجلك، من اجل بيوت اخوتهم واقاربهم في الجوار وفي جوار الجوار حتى آخر تخوم الدم العربي. لا تعرف الاسماء؟! لهم الاسماء الحسنى جميعا، وهي اسماء سنحفرها على جباهنا، سنزرع صورهم في ارحام نسائنا لتعيد ولادتهم من جديد. سنتخذ من اشلائهم راية ومن نشيجهم الأخير نشيدا للوطن الباقي.
* * *
لم تكن نور العابد قد ولدت بعد حين انعقدت قمة شرم الشيخ، لكن القمة التي انعقدت من اجل بيريز وباسمه اصدرت الحكم بإعدامها من قبل ان تولد. القمة تعرف الارهابيين وهم بعد في الارحام، هل يعجز كل اولئك الارهاط من رجال المخابرات الاميركية وعملائها العرب عن تبين الارهابي، من المسالم وهو جنين؟!
اليوم يكتشف اهالي النبطية وقانا وصديقين مدى خطورتهم، وعظيم اهمية »اصواتهم« في تأمين الفوز الساحق لقاهر الليكوديين بنهجه السلمي: شمعون بيريز. لم يعرفوا ان اشلاء اطفالهم هي التي سترفع بيريز الى مقام ملك الشرق الاوسط الجديد في النظام الاميركي الجديد للعالم القديم.
* * *
اخلع نعليك متى يممت وجهك شطر تلك الارض المطهرة بالدم ومآقي العيون.
انها أرض مرشومة بالحدقات، بالوجنات النضرة، بالأيدي ذات الاصابع اللدنة وقد انطبقت على لعبة رخيصة جاء بها العيد الى الذين لن يصلهم مرة اخرى.
انها ارض نسيمها مضمخ بنجيع وقد خالطه عطر زهر الليمون، وقد انغرست فيها تلك الأيدي الغليظة الاصابع والمشققة اكفها والتي ينبعث منها شميم التراب القدسي.
»الله نور السموات، والارض مثل نوره«.
الارض مثل »نور«. »نور« مباركة مثل الارض. نور على نور.

Exit mobile version