طلال سلمان

“العرب” يفترقون اشتاتا.. عن فلسطين: حالفوا اسرائيل تبلغوا واشنطن..

صارت واشنطن، بقوة الامر الواقع، “عاصمة القرار العربي”، مع مشاركة روسية اضطرارية، وشراكة اسرائيلية معلنة تتجاوز السياسة إلى مسائل الحرب والسلام والاقتصاد وأسباب التقدم الاجتماعي.

وبقدر ما توثقت علاقات الصداقة والتعاون بين واشنطن ومختلف العواصم العربية فقاربت حدود التبعية السياسية، تهاوت حواجز العداء بين هذه العواصم ذات الحق الشرعي بالقرار وبين العدو الإسرائيلي.. وكلمة “العدو”، هنا، تجاوز للواقع الموضوعي الذي يحكم الآن علاقات الدول العربية بالقضية التي كانت مقدسة، ذات يوم، فلسطين، والتي غدت الآن نادراً ما تستذكر في مجال العلاقات العربية مع الدول الأخرى، لا سيما الكبرى منها.

اختفت تعابير من نوع “الوطن العربي” وحتى “العالم العربي” وحل محلها التعبير الجغرافي البحت الذي يجهِّل الهوية ويترك مشاعها مفتوحاً ليشمل مختلف الدول القائمة على ضفتي هذا البحر من: سوريا ولبنان وفلسطين (التي صيرت اسرائيل) إلى مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، ومعها من الجهة الاخرى جزيرة قبرص وتركيا واليونان وايطاليا واسبانيا والبرتغال حتى مضيق جبل طارق الذي يصل هذا البحر بالمحيط الاطلسي، او “بحر الظلمات” الذي لو عرف الفاتح باسم الاسلام والعروبة “أن وراءه براً لعبر اليه”!

سقطت جامعة الدول العربية من الذاكرة الرسمية سهواً، وباتت مجرد دائرة تصديق على الانحراف عن ميثاقها الاصلي، تبرر الخروج على ميثاقها بالعجز عن منعها، وتمكن دولة قزم من طرد دولة مؤسسة منها، مثل سوريا.. تعترف بالاحتلال الاميركي للعراق، كأمر واقع، وتغض طرفها علن الحرب المدمرة لليمن بعمرانها وشبعها العريق.

سقطت ايضا المؤسسات المنبثقة عن الجامعة والتي كانت تؤكد وترعى وجوه التكامل والتعاون بين “الاشقاء العرب”، في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وصولاً إلى مكتب مقاطعة اسرائيل ومؤسسة الالسنية العربية الهادفة إلى تحديث اللغة العربية وحماية إصالتها.

بالمقابل صار للعدو الاسرائيلي “سفارات” في العديد من الدول العربية، ومكاتب تمثيل وأشباه قنصليات في عدد آخر منها، وها هي السلطة الفلسطينية التي كانت ذات يوم الاطار الجامع لفصائل المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الاسرائيلي مجرد تكية بلا حضور فاعل، يغلب الشكل (الحرس والإدارات والسفارات المفلسة في بعض عواصم العالم) على مضمونها الاصلي كحركة تحرير للأرض المقدسة.

كل ذلك يجري تحت رعاية اميركية مباشرة، يقابلها ـ عبر التنازلات المتوالية ومعها ـ سعى إلى التطبيع مع العدو الاسرائيلي، وتبعية ذليلة للقرار الاميركي، مهما كانت قسوته على الكرامة العربية ومهما كان إفتئاته على الحقوق العربية، ليس في فلسطين وحدها، بل في كل ارض عربية.

ولقد كانت الحكومات العربية، بمجملها، اشد حرارة في ترحيبها بالمضارب دونالد ترامب رئيسا للولايات لمتحدة من اكثرية الشعب الاميركي، بما يعكس ضيقها بالرئيس السابق باراك اوباما الذي حاول أن يكون “متوازناً”، ولو بحدود في الموضوع الفلسطيني وفي العلاقة مع الكيان الصهيوني.

ما علينا، لنوجز النتائج:

ـ زاد تفكك الروابط الجدية بين البلاد العربية، خصوصاً وقد صار الانقسام أمراً واقعاً بين الدول الغنية بمواردها التي جاءت بها الطبيعة، النفط والغاز، والدول الفقيرة و”الغنية” بعدد سكانها: مصر، المغرب، السودان، سوريا الخ…

ـ صارت العلاقات بين الأغنى والأفقر، علاقات شكلية، حتى لا نقول علاقة تسول.. وصارت كل قمة عربية تتطلب جهوداً هائلة لتحقيق انعقادها في موعدها السنوي المقرر، اما مقرراتها فتخضع لعمليات تجاذب و”معارك” بين الأفقر وبالتالي الاضعف وبين الأغنى وبالتالي الأقوى.

وللتذكير فقد تمكنت دولة لقبيلة، هي قطر، من طرد دولة مؤسسة لجامعة الدول العربية منها، هي سوريا من دون اعتراض جدي، بل بموافقة علنية او ضمنية من مختلف الدول الاخرى.. وما زال مقعدها في الجامعة شاغراً حتى الآن، وهي لا تُدعى وبالتالي لا تشارك في أعمال القمم العربية، وربما كان أكثر ما يهم السوريون هو أن يتوقف دعم الدول العربية الغنية للمعارضات متعددة العنوان والولاء والتي لا يُستبعد أن تكون “داعش” في صفوفها المقاتلة في بلاد الشام تحت راية الاسلام.. الاميركي.

إن الوقائع قاطعة: بقدر ما تتراجع “العلاقات الاخوية” بين الدول العربية، في ما بينها، مشرقاً ومغرباً، يتزايد توطد العلاقات بين عواصم هذه الدول، الخليجية اساسا، وبين الولايات المتحدة الاميركية.. واستطراداً: اسرائيل!

ـ صارت واشنطن المقصد ودار اللقاء بين القادة العرب والمسؤولين الاميركيين. وفي الاخبار أن قمة خليجية ـ اميركية ستعقد خلال الايام القليلة المقبلة، لتنجز فيها واشنطن “المصالحة التاريخية” بين السعودية ودولة الامارات والبحرين (والكويت) من جهة والامارة المن غاز قطر من جهة أخرى، بعدما عجز كبير اهل الجزيرة والخليج امير الكويت الشيخ صباح الاحمد الصباح عن انجاز هذه المصالحة، التي كلفت دول الجزيرة والخليج صفقات ضخمة من السلاح، ووسعت مجال النفوذ امام تركيا، أقله في قطر، حيث اقامت قاعدة عسكرية، لا نعرف ضد من؟! (هذا فضلاً عن سعي تركيا لإقامة قواعد عسكرية أخرى لها على الشاطئ العربي الافريقي في السودان؟ والصومال)..

باختصار: لم تعد الدول العربية (لا سيما الغنية منها) صاحبة قرارها، لا في المجال الاقتصادي (خصوصاً النفط والغاز) ولا في المجال الاستراتيجي (الحرب والسلم)، ولا في المجال السياسي.. ففي واشنطن، ما بين الخارجية والبنتاغون بعد البيت الابيض، “يكمن” القرار العربي.. سواء في ما يخص فلسطين، او ما يخص سوريا، او العراق، فضلاً عن ليبيا المتروكة لقدرها.

ولقد كشف الاعلان عن المناورات العسكرية الشاملة والمشتركة بين القوات الاميركية والعدو الاسرائيلي، والمقررة خلال الايام القليلة المقبلة، ما كانت اكدته زيارة الرئيس الاميركي ترامب لكيان العدو، قبل حين، ثم وعده بزيارتها مرة أخرى ـ بعد بضعة اسابيع ـ للمشاركة في احتفالها “التاريخي” بضم القدس نهائياً إلى كيانها، والغاء التقسيم الذي كان معتمداً والذي “يعطي” اسرائيل بعض القدس ويترك بعضها الآخر الذي يضم المقدسات الاسلامية والمسيحية (كنيسة القيامة ودرب الآلام، المسجد الاقصى “الذي باركنا من حوله”، ومسجد الصخرة (او مسجد عمر بن الخطاب)) تحت اشراف المملكة الاردنية الهاشمية، رمزيا، وتحت سلطة غير مثبتة للفلسطينيين..

لقد سقطت عمداً، وليس سهواً، المؤسسات المجسدة للحد الادنى من التضامن العربي، سواء على المستوى السياسي او الثقافي أو العلمي او الاقتصادي او الدفاعي ولم تصمد سوى المؤسسة الامنية، المؤتمر السنوي لوزراء الداخلية العرب. حيث تتبادل الاجهزة الامنية للدول العربية المختلفة فيما بينها على البديهيات، المعلومات الامنية حول “العناصر الخطرة” او المهددة أمن هذه الانظمة، بعضها أو كلها.

وبديهي أن هذه المعلومات متاحة لأجهزة الاستخبارات الغربية، لا سيما الاميركية، منها.. تكمل فيها ما قد ينقصها، او تطلب من “اصدقائها العرب” استكمالها.

توزع “العرب” رسميا، ايدي سبأ، لا يجمعهم جامع جدي، لا في السياسة ولا في الاقتصاد، لا في الدفاع المشترك، ولا في الامن القومي، لا في الثقافة ولا حتى في الرياضة كألعاب الشطرنج، مثلاً.

ولعل أكثر ما يجسد هذا الواقع خروج “العرب” من دائرة البحث عن حل لقضية الحرب في سوريا وعليها.

وكذلك الامر مع العراق الذي اضطرت دول الخليج العربي لعقد مؤتمر تحت عنوان مساعدته على مواجهة الازمة الاقتصادية التي تضربه منذ سنوات، مع تجاهل تام ـ ومقصود ـ لازمته السياسية التي تتهدد وجوده ككيان سياسي مؤثر… وملفت أن يتكرم الاخوة الاغنياء على العراق الذي كان اغنى منهم جميعاً بثلاثين من الفضة (ثلاثون مليار دولار) كقروض تستعاد مقسطة.

*****

كيف اذن نتوقع من “العرب” أن يحتفظوا في ذاكرتهم المتعبة بما يشير إلى فلسطين، التي تكاد تخرج من ارض الواقع لتسكن الوجدان.

هل نذكر بأن اهتمام المملكة العربية السعودية بالشقيق الاصغر، لبنان، قد بلغ ذروته باحتجاز رئيس حكومته سعد الحريري لمدة عشرة ايام، في فندقه، واجباره على تلاوة بيان استقالة مكتوب، ثم لم تفرج عنه وعن عائلته الا بتدخل حاسم من رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون..

وهل من دليل أكثر حرارة من مثل هذا الاحتضان الاخوي.

ينشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية

Exit mobile version